السفارة الأميركية في بيروت. 20 سفيراً تعاقبوا... كثيرون منهم أصبحوا قادة في واشنطن. التفجيرات والاحتجاجات لم تكسر الشراكة الاستراتيجية. رسالة تعيين عيسى: لا دعم بلا إصلاح ولا استقرار بلا سيادة

ملخص على مدى أكثر من سبعة عقود، اتسمت العلاقات اللبنانية الأميركية بطابع مزدوج جمع بين الشراكة والدعم من جهة، والتوتر والصدام من جهة أخرى، لكنها بقيت علاقة استراتيجية ثابتة. بدأت هذه العلاقة رسمياً بعد استقلال لبنان عام 1944، وتطورت عبر محطات مفصلية أبرزها تدخل عام 1958، والحرب الأهلية، وتفجيرات الثمانينيات، ثم مرحلة ما بعد "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب. دعمت واشنطن مؤسسات الدولة، ولا سيما الجيش اللبناني، لكنها واجهت معارضة داخلية قادتها في البداية قوى اليسار والحركة الوطنية، ثم "حزب الله" ومحور الممانعة.

منذ أكثر من قرن، نسج لبنان والولايات المتحدة علاقة متقلبة تراوحت بين الشراكة والدعم، والتوتر والصدام، لكنها بقيت ثابتة في جوهرها كعلاقة استراتيجية لا يمكن تجاوزها. اليوم، تدخل هذه العلاقة مرحلة مختلفة كلياً مع إدارة الرئيس دونالد دونالد ترمب، ليس فقط بسبب تبدل المقاربات الأميركية تجاه الشرق الأوسط، بل بفعل حضور غير مسبوق لشخصيات أميركية من أصل لبناني في الدائرة الضيقة للرئيس الأميركي.

LIVE An error occurred. Please try again later

Tap to unmute Learn more من مسعد بولس، صهر الرئيس ترمب وأحد مستشاريه في شؤون أفريقيا والشرق الأوسط، إلى تعيين ميشال عيسى، أول سفير أميركي من جذور لبنانية في بيروت، وصولاً إلى توم باراك، الموفد الأميركي البارز وصديق ترمب المقرب، تتشكل لوحة سياسية جديدة تحمل دلالات عميقة. هذا الحضور اللبناني الكثيف داخل إدارة ترمب لا يمكن قراءته كصدفة، بل كمؤشر إلى مقاربة مختلفة ترى في لبنان أكثر من ملف أمني أو ساحة نفوذ، وتعيد فتح النقاش حول طبيعة الدور الأميركي، وحدود الدبلوماسية، ووظيفة السفارة الأميركية في بيروت.

فمنذ وصول أول مبشر بروتستانتي أميركي إلى بيروت في عام 1819، تمازج الحضور الأميركي في لبنان بالتعليم والخدمات الطبية ثم تحول إلى حضور دبلوماسي رسمي عام 1944، عندما اعترفت واشنطن بسيادة لبنان، وعلى رغم الشراكات الاقتصادية والثقافية العميقة التي نمت منذ ذلك الوقت، اتسمت العلاقات اللبنانية الأميركية بأنها علاقات مزدوجة: هناك شريحة كبيرة من اللبنانيين ترى في الولايات المتحدة شريكاً سياسياً واقتصادياً أساسياً، لكنها تواجه باستمرار معارضة حادة من قوى محلية مرتبطة بأجندات إقليمية كانت هذه القوى في البداية منتمية إلى "الحركة الوطنية" وقوى اليسار بقيادة كمال جنبلاط، ثم انتقلت لاحقاً إلى قوى "الممانعة" بقيادة "حزب الله".

تأسيس العلاقة الرسمية بعد انتهاء الانتداب الفرنسي، سعت واشنطن إلى ترسيخ حضورها في لبنان ضمن سياسة ملء الفراغ في شرق المتوسط. ففي الثامن من سبتمبر (أيلول) 1944 اعترفت الولايات المتحدة رسمياً باستقلال لبنان، ثم رفعت المفوضية الأميركية إلى مرتبة سفارة في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1952، وعين هارولد ب. ماينر أول سفير أميركي في بيروت. تبنى ماينر سياسة دعم المؤسسات اللبنانية الناشئة وتشجيع الاستثمار والمساعدات الاقتصادية، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تسعى إلى صد النفوذ السوفياتي وبناء شبكة تحالفات في المنطقة.

وشكلت أزمة عام 1958 أول اختبار فعلي للعلاقة اللبنانية الأميركية، فمع تصاعد المد القومي العربي والوحدة المصرية - السورية، انفجرت اضطرابات داخلية حادة في لبنان، بقيادة "الحركة الوطنية" التي أرادت الانضمام إلى "الوحدة الناصرية"، مما دفع الرئيس اللبناني آنذاك كميل شمعون إلى طلب دعم واشنطن، فجاء الرد سريعاً: في الـ15 من يوليو (تموز) 1958 نزل أكثر من 14 ألف جندي من مشاة البحرية الأميركية على شاطئ خلدة (جنوب بيروت)، مدعومين بالأسطول السادس. وعلى رغم التبرير الرسمي بحماية المرافق الحيوية اللبنانية، حمل التدخل رسالة سياسية واضحة بأن الولايات المتحدة لن تسمح بسقوط لبنان في الفلك الناصري. انتهت الأزمة بانتخاب فؤاد شهاب رئيساً، وانسحبت القوات الأميركية بعد ثلاثة أشهر، لكن بيروت باتت منذ ذلك الحين قاعدة متقدمة للسياسات الأميركية في المنطقة.

من الازدهار إلى مقتل السفير ميلوي شهدت فترة الستينيات من القرن الماضي، نمواً اقتصادياً واستقراراً نسبياً في لبنان، ترافق مع دعم أميركي متزايد للمؤسسات الرسمية. تعاقب سفراء مثل أرمين ماير ودوايت بورتر، وعملت السفارة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية، فيما أنشأت الولايات المتحدة وكالة معلومات في بيروت في عام 1953 لتعزيز التواصل الشعبي. في الوقت نفسه، استخدم لبنان كنموذج "ليبرالي" في مواجهة الأنظمة الشمولية المجاورة، مما جعله ساحة صراع ناعم بين المعسكرين الغربي والشرقي.

إلا أنه مع مطلع السبعينات، تصاعد نفوذ المنظمات الفلسطينية والحركة الوطنية اليسارية، وانقسم لبنان بين معسكرين متواجهين، مما تسبب باندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، وأصبحت بيروت واحدة من أخطر الساحات الدبلوماسية في العالم. وفي الـ16 من يونيو (حزيران) 1976، خطف السفير الأميركي فرانك ميلوي والمستشار الاقتصادي روبرت وارينغ أثناء توجههما لتقديم أوراق الاعتماد، وقتلا على يد مسلحين من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". شكل الاغتيال صدمة كبرى لواشنطن، ورسخ فكرة انهيار الحصانة الدبلوماسية في لبنان.

الاغتيالات والتفجيرات ازدادت الأخطار في الثمانينيات، ففي أغسطس (آب) 1980 نجا السفير جون غنتر دين من محاولة اغتيال في الحازمية (إحدى ضواحي بيروت). ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إذ لعبت واشنطن دور الوسيط لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية، وأرسلت قوات "المارينز" ضمن قوة متعددة الجنسيات. لكن عام 1983 كان مفصلياً، ففي الـ18 من أبريل (نيسان) فجر انتحاري شاحنة مفخخة في مقر السفارة الأميركية في عين المريسة ببيروت، فقتل 63 شخصاً بينهم 17 أميركياً. وبعدها في أكتوبر قتل 241 جندياً أميركياً في تفجير ثكنة المارينز قرب مطار بيروت. وفي سبتمبر (أيلول) 1984 استهدف المقر الموقت للسفارة بتفجير جديد أودى بحياة 23 شخصاً. نسبت هذه الهجمات إلى تنظيمات مرتبطة بإيران و"حزب الله"، وأدت إلى انسحاب القوات الأميركية وتقليص الوجود الدبلوماسي.

ومع تفاقم الحرب، أغلقت السفارة الأميركية بالكامل في عام 1989 بعد محاصرتها، وغادر السفير جون مكارثي وطاقمه بيروت. لم يستأنف العمل الدبلوماسي إلا في الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1990، عندما قدم السفير رايان كروكر أوراق اعتماده، إيذاناً بمرحلة إعادة بناء العلاقة بعد "اتفاق الطائف" الذي أوقف الحرب اللبنانية. خلال التسعينيات، ركزت واشنطن على دعم إعادة الإعمار، وقدمت عبر الوكالة الأميركية للتنمية (USAID) برامج واسعة في مجالات الكهرباء والمياه والتعليم، مع غض نظر نسبي عن الوصاية السورية وتصاعد نفوذ "حزب الله".

ومن اللافت أن عدداً كبيراً من السفراء الذين خدموا في بيروت انتقلوا لاحقاً إلى مناصب رفيعة، مما يعكس أهمية التجربة اللبنانية في مسارهم الدبلوماسي، مثل ريجينالد بارثولوميو، وجون غنتر دين، وروبرت ديلون، وديفيد ساترفيلد.

اغتيال الحريري شكل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005 نقطة تحول كبرى، إذ دعمت إدارة جورج بوش الابن "ثورة الأرز" وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، ولعب السفير الأميركي حينها جيفري فيلتمان دوراً محورياً في الضغط الدولي على دمشق، مما أدى إلى انسحاب الجيش السوري. غير أن حرب يوليو (تموز) 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل عمقت الانقسام الداخلي، إذ دعمت واشنطن إسرائيل ورفضت وقفاً مبكراً لإطلاق النار، مما عزز خطاب المعسكر المعارض للنفوذ الأميركي، على رغم زيادة المساعدات للجيش اللبناني لاحقاً.

ومنذ عام 2011، واجه لبنان أزمات متلاحقة: الحرب السورية، وتدفق اللاجئين، والفراغ الرئاسي، والانهيار المالي، ثم انفجار مرفأ بيروت عام 2020. بقيت الولايات المتحدة أكبر مانح إنساني للبنان، لكنها لجأت أيضاً إلى العقوبات المالية ضد شخصيات مرتبطة بـ"حزب الله". بالتوازي، شهد محيط السفارة الأميركية في عوكر (شمال بيروت) تظاهرات متكررة، أبرزها في 2019 و2023، إضافة إلى حادثة إطلاق نار في يونيو (حزيران) 2024، مما أعاد التذكير بأن السفارة لا تزال هدفاً سياسياً وأمنياً.

ميشال عيسى ورسالة ترمب وبعد سلسلة من 20 سفيراً، عين الرئيس دونالد ترمب، الأميركي اللبناني الأصل، ميشال عيسى سفيراً للولايات المتحدة لدى بيروت، مما يمكن قراءته بوضوح على أنه في السياق السياسي الذي حكم خيارات الرئيس الأميركي في الشرق الأوسط. فالقرار لم يكن تقليدياً، ولا يندرج ضمن المسار الكلاسيكي لتعيين دبلوماسي من وزارة الخارجية، بل جاء ليعكس مقاربة سياسية مباشرة تقوم على الثقة الشخصية والبراغماتية الصلبة. عيسى ليس رجل سلك دبلوماسي، بل رجل أعمال ومصرفي مخضرم، وشخصية مقربة جداً من الرئيس ترمب، مما يمنحه هامش تأثير أوسع من سفير تقليدي.

اختيار ترمب لعيسى يحمل أولاً رسالة واضحة إلى الداخل اللبناني مفادها بأن واشنطن لم تعد تنظر إلى لبنان فقط كملف أمني أو إنساني، بل كقضية سياسية تحتاج إلى إدارة حازمة تفهم تعقيدات النظام اللبناني من الداخل. عيسى، المولود في بيروت والمتحدر من عائلة لبنانية، يتحدث لغة البلد ويعرف تركيبته الطائفية والسياسية، ويدرك بدقة حدود الدولة ونقاط ضعفها، كما يعرف طبيعة القوى التي تعوق قيامها. هذا الفهم الداخلي هو ما تفتقده غالباً الدبلوماسية التقليدية، وهو ما أراد ترمب إدخاله إلى قلب القرار الأميركي في بيروت.

ثانياً، يوجه هذا التعيين رسالة مباشرة إلى القوى الممسكة بالسلاح خارج الدولة، فترمب، الذي اعتمد في ولايته سياسة "الضغط الأقصى" على إيران وحلفائها، اختار سفيراً لا يلتبس موقفه من "حزب الله"، وقد أعلن صراحة أن نزع سلاح الحزب ضرورة لا خيار. وجود سفير بهذه الخلفية وبقرب مباشر من الرئيس الأميركي يعني أن هامش المناورة السياسية سيكون أضيق، وأن الرسائل لن تمر عبر قنوات بيروقراطية بطيئة، بل مباشرة إلى أعلى المستويات.

أما الرسالة الثالثة، فموجهة إلى اللبنانيين عموماً وإلى النخب الاقتصادية والاغترابية خصوصاً. فترمب أراد أن يقول إن الولايات المتحدة مستعدة لمرافقة لبنان في مسار الإنقاذ، ولكن بشرط: دولة واحدة، قرار واحد،.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من اندبندنت عربية

منذ 34 دقيقة
منذ ساعتين
منذ 4 ساعات
منذ ساعة
منذ ساعة
منذ ساعة
قناة روسيا اليوم منذ ساعتين
قناة روسيا اليوم منذ 11 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة العربية منذ 9 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ ساعة
قناة العربية منذ 10 ساعات
سكاي نيوز عربية منذ ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 8 ساعات