صدر حديثا كتاب «متاهة النكران.. من سيرة أبطال ثورة 1919» للكاتب الصحفي والباحث في التاريخ ياسر الشيمي، في عمل توثيقي جريء يعيد طرح واحدة من أكثر لحظات التاريخ المصري ثراءً وتعقيدًا، عبر زاوية مختلفة تركز على من صنعوا الحدث ثم تواروا خلف ستار النسيان.
ينفذ الكتاب إلى العمق الإنساني لثورة 1919، متتبعًا مسارات رجال ونساء خاضوا معركة الحرية، وقدموا تضحيات جسيمة دفاعًا عن الوطن، قبل أن تتراجع أسماؤهم عن المشهد العام، وتُستبعد حكاياتهم من السرديات الرسمية وكتب التاريخ. ويسعى المؤلف إلى إعادة الاعتبار لهؤلاء المنسيين، عبر توثيق أدوارهم، وكشف ما تعرضوا له من تهميش متعمد، وإبراز حجم التضحيات التي طُمرت مع مرور الزمن.
ويقدم «متاهة النكران» قراءة مغايرة للثورة، لا تتوقف عند النخب والأسماء المتداولة، بل تتجه إلى قلب الفعل الشعبي، حيث تشكلت البطولات الحقيقية، وتجلّت معاني التضحية الجماعية التي مهدت طريق الاستقلال، في محاولة لتوسيع أفق الذاكرة الوطنية واستعادتها من الاختزال.
ويمثل الكتاب دعوة صريحة إلى إعادة فحص التاريخ المصري، وإنصاف من غُيّبوا قسرًا، واستعادة مكانتهم المستحقة في الوعي العام، بوصفهم جزءًا أصيلًا من ملحمة التحرر الوطني، لا هامشًا سقط سهوًا من الصفحات.
ومن مقدمة الكتاب:
يكشف المؤلف عن طبقات كثيفة من التعتيم والإقصاء، طمرت أسماء ناضلت بلا مقابل، وحرمت من الاعتراف، حتى في عهود وطنية عجزت عن إنصافهم أو شاركت في محوهم من الذاكرة الجمعية.
في مقدمة هؤلاء عبد الرحمن بك فهمي، العقل المدبر للثورة وقائدها الحقيقي، الذي اختار العمل في الظل، فاختفى اسمه تمامًا رغم دوره الحاسم في التنظيم والقيادة. وإلى جواره يبرز أحمد عبد الحي كيرة، الفارس الذي لاحقته أجهزة الاحتلال من دولة إلى أخرى، قبل أن يسقط قتيلًا في إسطنبول بعد رحلة مطاردة طويلة.
ويستحضر الكتاب سيرة حميدة خليل، أولى شهيدات ثورة 1919، التي رحلت في صمت مطبق، دون تكريم رسمي أو اعتراف حتى اليوم. كما يتوقف أمام بطولة عريان يوسف سعد، الذي تصدى لمحاولة اغتيال رئيس الوزراء القبطي، مُفشلًا مخططًا لإشعال فتنة طائفية لطالما لوّح بها الاحتلال عقب اغتيال بطرس غالي.
ومن بين الأسماء التي أُقصيت عمدًا من الذاكرة الوطنية تبرز عزيزة خضير، المناضلة التي قدمت كل ما تملك من أجل الثورة، حتى مُحي اسمها من سجلات التاريخ ومن ذاكرة قريتها نزلة الشوبك. ويستعيد الكتاب أيضًا سيرة الحاج أحمد رمضان زيان، شيخ الفدائيين في الإسكندرية، الذي واجه الاحتلال حتى آخر لحظة في حياته، وبقي مجهولًا حتى لأبناء مدينته.
كما يتناول المؤلف تجربة قرياقص ميخائيل، الصحفي الثائر الذي حمل قضية الاستقلال إلى قلب لندن، ونظم مظاهرات أربكت صناع القرار البريطانيين، جامعًا بين الكلمة والفعل، ومساندًا الوفد المصري في معركته الدبلوماسية بالخارج. ولا يغفل الكتاب قصة «ابن القباقيبي»، الطفل الذي واجه المحتل بشجاعة لافتة، ودعا يحيى حقي إلى تكريمه منذ عقود، دون أن تجد الدعوة صدى، ليظل رمزًا لبطولة أُهملت عن عمد.
هذه النماذج، وغيرها، تشكل جوهر «متاهة النكران»، كتاب يزيح الغبار عن أبطال دفعوا ثمن الحرية، بينما ظل الوطن يحمل جراحهم في صمت، منتظرًا من يعيد لهم أسماءهم ومكانتهم في الذاكرة والتاريخ.
هذا المحتوى مقدم من بوابة دار الهلال
