ذاكرة الجسد ليست مجرد كلمة شعرية وعنوان مجازي. وحول فرضية هذه الذاكرة تجاذب العلم والطب، وما زال في دائرة الاشتباه على رغم الحالات الكثيرة والشهادات والدراسات. لا يتذكر الجسد بالكلمات ولا يروي القصص، لكنه يعيد الإحساس. ويحتفظ بالفرح كما يحتفظ بالألم، وبالحدث كما يحتفظ بزمنه. فما الذي يجعل ذاكرة الجسد تهتز؟

ملخص ذاكرة الجسد ليست مجرد كلمة شعرية وعنوان مجازي. وحول فرضية هذه الذاكرة تجاذب العلم والطب، وما زال في دائرة الاشتباه على رغم الحالات الكثيرة والشهادات والدراسات. لا يتذكر الجسد بالكلمات ولا يروي القصص، لكنه يعيد الإحساس. ويحتفظ بالفرح كما يحتفظ بالألم، وبالحدث كما يحتفظ بزمنه.

فما الذي يجعل ذاكرة الجسد تهتز؟

ما إن نقول كلمة "الذاكرة" حتى تتطاير ملفات من الصور والروائح واللحظات والكلمات والأحداث من مراكز الذاكرة المعتادة في دماغنا، القصيرة منها والطويلة والمخفية في دهاليز وتجاويف الدماغ. ولكن ماذا لو قلنا إن الجسد يتذكر؟ ستبدو العبارة شاعرية أدبية مجازية.

LIVE An error occurred. Please try again later

Tap to unmute Learn more وعندما نذكر عبارة "ذاكرة الجسد" سيطلع إلى واجهة الذاكرة رواية للأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي بهذا العنوان. تلك الرواية التي حطمت أرقاماً قياسية في المبيع وحجزت مقعداً في الصفوف الأولى للروائية، لم تكن تقترح نظرية علمية ولا كانت بصدد الدفاع عن مفهوم نفسي أو طبي، بل كتبت أحلام عن جسد عاش أكثر مما احتمل، وعن ذاكرة لا تسكن الدماغ فحسب. إنها تلك الذاكرة التي تعشعش في الجسد، جسد مبتور يحمل حرباً ووطناً وامرأة وخسارات تكاد لا تشفى. بدت الفكرة شعرية بامتياز، الجسد يتذكر...

لم تكن تحاول إقناع أحد، وليست في موقع الدفاع ولا في موقع الإثبات. كانت تكتب من منطقة تعرفها جيداً، الجسد حين يتحول إلى مستودع للخسارات، وحين يصبح الوجع أكثر أمانة من الذاكرة.

لأعوام طويلة عدت هذه الفكرة أدبية ورومانسية، قابلة للإعجاب لا للنقاش. ولكن بعد عقود من الدراسات العصبية والنفسية، بات السؤال أكثر إلحاحاً هل أخطأ الأدب حين قال إن الجسد يتذكر؟ أم أن العلم تأخر في الاعتراف؟

الجسد لا ينسى! في ثقافة تمجد السيطرة بكل صورها، السيطرة على المشاعر وعلى الذاكرة وعلى الألم، غالباً ما نطرب لنعمة النسيان وننشد لها وننشدها، إذ يطلب منا أن نتجاوز ونقوى وننسى ويحاول العقل إتقان هذا الدور، ويتحايل على صاحبه ليدخله في حال من النكران أحياناً، ويخزن في صندوقه الأسود الذكريات المؤلمة، لكن الجسد لا يفعل.

فالجسد لا يفهم المجاز ويعرف فقط الإحساس. وعندما نقول ذاكرة الجسد أو الذاكرة الخلوية أو ذاكرة الخلايا فلا نعني أن العضلات تفكر أو أن الخلايا تملك وعياً مستقلاً، نحن في الواقع نتحدث عن التجارب وبخاصة تلك التي لم يُسمح لها بأن تُعاش أو تُفهم أو تُحكى، فتترك آثاراً فيزيولوجية حقيقية تظهر في التوتر المزمن، وفي اضطراب النوم والجهاز الهضمي وفي المناعة، في آلام تتنقل بلا سبب واضح وفي مشاعر مفاجئة لا يسبقها سياق منطقي تتجسد في شد عضلي وأرق ونوبات هلع.

الذاكرة ليست شأناً ذهنياً فقط لم يعد العلم الحديث ينظر إلى الذاكرة بوصفها عملية ذهنية صرفة، إذ يؤكد علم الأعصاب أن الدماغ نفسه يتغير بفعل التجارب، وهو ما يعرف باللدونة العصبية. فكل تجربة متكررة وكل صدمة وكل حالة خوف طويلة تترك بصمة في المسارات العصبية، وتعيد تشكيل طريقة استجابة الجسد للعالم.

يشرح عالم الأعصاب الأميركي أنطونيو داماسيو في كتابه الشهير "خطأ ديكارت" الصادر عام 1994 الصدام التقليدي بين العقل والجسد، وكيف تترك المشاعر آثاراً جسدية سماها "المؤشرات الجسدية"، وهي إشارات فيزيولوجية تخزن في الجهاز العصبي وتستدعى لاحقاً من دون وعي، لتوجه السلوك واتخاذ القرار. ونحن هنا لا نتذكر الحدث بحد ذاته، لكن الجسد يتذكر الإحساس. فالماضي لا يعود كذكرى، إنما على صورة توتر مفاجئ ونبض متسارع ونفور غير مفهوم من مكان أو صوت أو رائحة، مما يعطي انطباعاً أن الجسد يتذكر قبل العقل.

الذاكرة التي نتحكم بها عام 1987، نشر عالم النفس الأميركي دانيال شاكتر دراسة بعنوان "الذاكرة الضمنية: التاريخ والوضع الراهن"، وفيها يشرح أن هناك نوعاً من الذاكرة يعمل خارج الوعي لا يعتمد على السرد ولا على التذكر الواعي. وهذه الذاكرة الضمنية التي لا نملك مفتاحها الواعي، وهي تخزن الخبرات العاطفية والجسدية وبخاصة الصادمة منها، بعيداً من السرد واللغة، وتعيد تشغيلها كاستجابات جسدية.

لذلك قد يرتجف الجسد قبل أن نفهم لماذا، وقد نشعر بالخطر في غياب أي تهديد حقيقي ونتألم من دون قصة واضحة. ونشر أستاذ علم الأحياء العصبية في جامعة ستانفورد روبرت سابولسكي عام 2004 كتابه "لماذا لا تصاب الحمير الوحشية بالقرحة"، الذي يدرس في كليات الطب، يوضح أن الإنسان بخلاف الحيوانات يعيش الصدمة مراراً في خياله، فيحول التوتر إلى حالة مزمنة. هذا التوتر يخلخل المحور الذي يعمل كنظام إنذار وتحكم المتمثل في الوطاء والغدة النخامية والغدة الكظرية، وهو المسؤول عن تنظيم هرمونات الضغط، ويجعل الجسد في حالة تأهب دائم. لتكون النتيجة قلقاً وسلسلة أمراض عضوية موثقة طبياً.

الصدمة لا تنتهي عند صاحبها باتت عبارة "ذاكرة الجسد" مفهوماً تدعمه أبحاث بيولوجية دقيقة تظهر كيف يمكن للصدمة أن تترك أثرها في الجسد، لا في صاحبها وحده، إنما في الأجيال التي تليه. ففي دراسة لافتة نشرت عام 2025 ضمن مجلة Scientific Reports، قادت الباحثة الأميركية كوني موليغن وفريقها تحليلاً وراثياً دقيقاً لثلاثة أجيال من عائلات لاجئين سوريين تعرضوا للعنف والحرب. وكشفت عن تغيرات واضحة في ما يعرف بالعلامات فوق الجينية لدى الأبناء والأحفاد، وهي تغيرات لا تمس تسلسل الجينات نفسه، إنما طريقة تعبيرها ووظيفتها. الأخطر في النتائج أن هذه العلامات ظهرت حتى لدى أفراد لم يعيشوا الصدمة مباشرة، مما يشير إلى أن الجسد يمكن أن يرث أثر الخوف والعنف، وأن الذاكرة لا تخزن فقط في الدماغ، وهي تنقش بيولوجياً في الجسد عبر الأجيال. وتؤكد الدراسة أن الصدمة ليست حدثاً ينتهي بانتهاء زمنه، إنها تجربة قابلة للانتقال تعيد تشكيل استجابة الجسد للتوتر وتظهر في حساسية الجسد للخطر، حتى لدى من لم يشهدوا الحدث الأصلي. بمعنى أن الجسد لا يتذكر فقط ما عشناه، إنما قد يحمل أيضاً ما عاشه من سبقونا.

اعتراف الطب تتكرر القصص نفسها في العيادات بصور مختلفة. أشخاص لا يتذكرون طفولتهم بوضوح لكن أجسادهم تمتلئ بأعراض القلق، ونساء لا يستحضرن صدمات واضحة لكنهن يعشن مع آلام مزمنة واضطرابات مناعية، ورجال يصفون أنفسهم بالأقوياء لكن أجسادهم تنهار في لحظة هدوء.

يلخص الطبيب النفسي الهولندي الأميركي بيسل فان دير كولك ضمن كتابه الصادر عام 2014 "الجسد يحتفظ بالأثر" الصدمة بأنها ليست حدثاً من الماضي، إنما حالة جسدية مستمرة تظهر في الجهاز العصبي والمناعة والعضلات، وفي الإحساس الدائم بالخطر. وبحسب تعبيره، فإن الجسد "يحتفظ بالحساب" ولا ينسى الديون القديمة.

ساعة الجسد الداخلية ليست العيادات وحدها مسرحاً لذاكرة الجسد، فالحياة اليومية تحفل بردود الفعل السنوية. فكثر يشعرون بالحزن أو القلق في تاريخ محدد من كل عام من دون سبب واضح، في عيد ميلاد أو ذكرى وفاة أو موعد عملية جراحية أو حتى بداية فصل. والدماغ قد لا يربط الحدث، لكن الجسد يتذكر الزمن، يضبط ساعته الداخلية على الألم، ويعيد تفعيل الإحساس نفسه.

ويصف علم النفس ما يعرف بالـ"Anniversary Reaction"، وهي استجابة جسدية وعاطفية تتكرر في تواريخ محددة مرتبطة بحدث صادم، حتى لو لم يكن الشخص واعياً للسبب لأن الجسد يتذكر الزمن وليس بالضرورة.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من اندبندنت عربية

منذ ساعة
منذ ساعتين
منذ 10 دقائق
منذ 11 ساعة
منذ ساعتين
منذ ساعتين
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة العربية منذ 5 ساعات
قناة العربية منذ 16 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ ساعتين
قناة روسيا اليوم منذ 3 ساعات
قناة العربية منذ 6 ساعات
سي ان ان بالعربية منذ 5 ساعات
قناة العربية منذ 17 ساعة