لم يكن صيف عام 1949م مجرد إجازة عادية، بل كان نقطة التحول الكبرى في حياتي، فقد عدت من الإسكندرية بعد عام دراسي أنهكني فعدت أحمل شوقاً لرؤية الأهل، ورغبة في قضاء وقت أطول مع زوجتي التي لم أرها إلا أياماً معدودة بعد زواجنا.
لكن الفرحة ذهبت سريعاً إذ وجدت والدي عيسى الصالح، طريح الفراش في المستشفى الأمريكاني، كان ذلك المستشفى آنذاك من أقدم وأهم المراكز الطبية في الكويت، قائماً منذ عام 1911م، ويخدم الناس بإمكانات محدودة، لكنها غالية القيمة في أعينهم.
كنت أبيت بجوار والدي على الأرض، أرقب أنفاسه، وأدعو الله أن يمد في عمره، وفي الليلة الثالثة، وبعد استفراغ شديد، أسلم والدي الروح إلى بارئها في 19 أغسطس 1949م، شعرت حينها كأن العالم توقف، وأن كل ما حولي قد صمت فجأة.
القرار الذي لم يكن خياراً
في ذلك الصباح الحزين، أدركت أن حياتي الدراسية في مصر قد انتهت دون عودة، لم يكن القرار بحاجة إلى تفكير أو موازنة كنت أكبر إخوتي، والمسؤولية الآن فوق كتفي، وكان عليَّ أن أكون الأب والأخ الحامي والمدبر للبيت الذي يضم أمي وتسعة إخوة وزوجتي الشابة.
أغلق حلم الطب أبوابه، وفتحت أبواب الحياة العملية على مصراعيها... لم يكن الأمر سهلاً، لكنني تذكرت قول الله تعالى: (أَلَمْ يَجِدكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائلاً فَأَغْنى) سورة الضحى.
رحيل والده غيّر مجرى حياته... والبداية من مصنع «الكاشي»
إرث من الطموح - مصنع الكاشي
كان والدي ــ رحمه الله ــ قد بدأ مشروعاً صناعياً قبل وفاته: مصنع لإنتاج الكاشي (البلاط الأسمنتي)، وكان مشروعاً جريئاً في زمن لم تعرف فيه الكويت صناعة بهذا الشكل.
اشترى معدات المصنع المستعملة من إيران، واستورد حجر الرخام من إيطاليا، والأسمنت الأبيض من بريطانيا، وجهز المواد الخام في «حوطة» مؤجرة قرب الموقع الذي أصبح لاحقاً «فندق الشيراتون» بإيجار شهري قدره 50 روبية.
وقفت في الحوطة أنظر إلى المعدات، وأتذكر كيف كان والدي يتحدث عنها بفخر، وعن حلمه أن يجعل الكويت تُصنِّع بدلاً من أن تستورد فأحسست أن من واجبي أن أكمل ما بدأه.
انتقل من «البلاط» إلى الحرف وتولى رئاسة تحرير «الهدف»
البداية من الصفر
لم أكن أعرف الكثير عن تشغيل مصنع بلاط، لكنني كنت أعرف كيف أتعلم... استعنت بالعمال الذين عملوا مع والدي، وجلست معهم أراقب خطواتهم، وكانت كالتالي:
- خلط الأسمنت الأبيض بالرمل والحصى.
- صب الخليط في قوالب معدنية.
- ضغط القوالب وإخراج البلاط.
- تركها لتجف قبل النقل.
كان العمل يدوياً شاقاً، والحرارة في الصيف لا ترحم، لكنني كنت أول من يحضر وآخر من يغادر، ولم يكن في ذهني سوى هدف واحد هو: أن ينجح المصنع، لأنه مصدر رزق العائلة الوحيد.
وكنت أزور السيد عبدالحميد الصانع مدير بلدية الكويت للتنسيق معه على بيع الإنتاج على البلدية.
نقل المصنع إلى الشويخ
بحلول عام 1953م، قررت الحكومة الكويتية إنشاء منطقة الشويخ الصناعية، ومنحت قسائم للشركات وأصحاب الحرف، فحصلنا على قسيمة هناك، ونقلت المصنع من موقعه المؤقت إلى مبنى جديد أكثر تنظيماً.
كان الموقع في المكان الذي أصبح لاحقاً معرض البشر والكاظمي في الشويخ بشارع البيبسي، ووجود المصنع في هذه المنطقة الصناعية الناشئة أعطانا دفعة قوية، وسهّل وصول المواد الخام، وتوزيع الإنتاج.
بين الصناعة والتجارة والزراعة
لم أكتف بالصناعة، فقد كنت أذهب إلى الوفرة في مواسم الربيع منذ عام 1967م، أشتري الأغنام وأرعاها، ثم أبيعها في الصيف، وقد وفرت لي هذه التجارة الموسمية رأسمالاً إضافياً ساعدني على تطوير المصنع.
كما بدأت أتعامل مع مواد البناء الأخرى، وأدخلت منتجات جديدة مما جعل نشاطي يتوسع شيئاً فشيئاً، وكان مزيج الصناعة والتجارة والزراعة يمنحني مرونة في مواجهة تقلبات السوق، ويحافظ على رأس المال، وكما قيل: لا تجعل بيضك في سلة واحدة.
من البلاط إلى الحروف
بعد سنوات من العمل في مصنع الكاشي، وتثبيت أقدامي في عالم الصناعة والتجارة بدأت أبحث عن مجالات أخرى يمكن أن أستثمر فيها وقتي وجهدي، ولم يكن الدافع مجرد الربح، بل رغبة في خوض تجارب جديدة، وفهم قطاعات لم أتعامل معها من قبل.
في منتصف الخمسينيات، كانت المطبعة العصرية قائمة في الكويت وهي شراكة بين مجموعة من الفلسطينيين وحاجي تقي الصفار، وكنت أتعامل معهم أحياناً في طباعة دفاتر الفواتير أو مستندات المصنع، فلاحظت أن المطبعة تمتلك إمكانيات جيدة لكنها بحاجة إلى إدارة أكثر تنظيماً، واستثمار أوسع.
وفي يوم من الأيام، عُرضت عليَّ فرصة شراء حصة حاجي تقي الصفار في المطبعة، فدرست الأمر، ووجدت أن قطاع الطباعة له مستقبل في بلد مثل الكويت الذي كان مقبلاً على نهضة تعليمية وثقافية، فقررت الدخول في شراء أسهم المطبعة العصرية.
جريدة «الهدف» - مشروع الكلمة
بعد تملكي الحصة في المطبعة العصرية، بدأنا نفكر في توسيع نشاط المطبعة ليشمل إصدار صحيفة، وهكذا ولدت فكرة جريدة «الهدف»، وكانت صحيفة أسبوعية تهتم بالشأن المحلي، وتواكب الأحداث العربية والدولية، وتفتح صفحاتها للأدب والفكر.
وترأس تحريرها في البداية ابن عمي المرحوم محمد مساعد الصالح، وهو صديق قديم ورفيق درب، واستمر في هذا المنصب ست سنوات، وكان الرجل مثقفاً واسع الاطلاع، يمتلك أسلوباً صحافياً رشيقاً يجذب القارئ.
مقعد رئيس التحرير 1961
في عام 1961م، قرر محمد مساعد الصالح الاستقالة من رئاسة تحرير مجلة «الهدف»، ليتفرغ لأعمال أخرى، وعرض عليَّ أن أتولى المنصب، وترددت في البداية، فأنا رجل صناعة وتجارة، ولم أكن أرى نفسي صحافياً محترفاً، لكنني أدركت أن الصحافة ليست مجرد مهنة بل منبر للتعبير عن الرأي والمشاركة في صياغة الوعي العام.
تسلمت رئاسة تحرير مجلة «الهدف» قبل أيام من بدء أعمال المجلس التأسيسي الذي شكل عام 1962م لوضع دستور الكويت وذلك بعد استقلال الكويت عام 1961م في مرحلة سياسية جديدة، فالكويت عقدت معاهدة حماية مع بريطانيا عام 1899 م، لمساعدتها في درء الأخطار والمطامع التي كانت تهدد أمن الكويت وسيادتها في ذلك الزمان، وفي 19 يونيو 1961م أعلنت الكويت استقلالها عن بريطانيا وأصبحت عضواً في جامعة الدول العربية في 20 يوليو 1961م، ثم عضواً في منظمة الأمم المتحدة في 14 مايو 1963م، وهنا وجدت نفسي في قلب المشهد السياسي والفكري للبلاد.
بدأ مشواره الحكومي في مجلس التخطيط ثم وزارة الأشغال
سوالف الأيام
كانت جلسات المجلس التأسيسي تعقد ثلاثة أيام في الأسبوع، أما جريدة «الهدف» فكانت تصدر يوم الأربعاء، فرأيتها فرصة ذهبية لربط ما يحدث في المجلس بقرّائي، وبالتالي بدأت أكتب عموداً أسبوعياً بعنوان «سوالف الأيام»، أعلق فيه على ما دار في الجلسات، وأحلله بأسلوب قريب من الناس كان الشيخ عبد الله السالم الصباح - أمير البلاد - يتابع ما أكتب ويعلّق عليه أحياناً، وقد منحتني هذه المتابعة من رأس الدولة إحساساً بالمسؤولية، وجعلتني أكثر حرصاً على دقة الكلمة وصدق المعلومة.
في عام 1962 وجّه الأمير الشيخ عبدالله السالم الصباح إلى تأسيس مجلس التخطيط بإشراف ورعاية الشيخ صباح السالم، في حين باشر رئاسته الفعلية أمير القلوب الشيخ جابر الأحمد، وتكوّن المجلس من أربعة أعضاء من الوزراء، وهم:
1 - الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح - وزير المالية والاقتصاد.
2 - الشيخ سالم العلي السالم الصباح - وزير الأشغال العامة.
3 - الشيخ عبد الله الجابر الصباح - وزير المعارف.
4 - الأخ محمد يوسف النصف - وزير الشؤون الاجتماعية والعمل.
ومن الأهالي من الرجال الذين يمثلون القطاع الخاص، كان لي شرف عضويته (كأصغر الأعضاء سناً)،.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الجريدة
