قبل اللقاء بوزير التجارة والصناعة .. هذا أبرز ما جاء في الاتفاقية الاقتصادية الشاملة مع الهند

أحمد بن علي الشيزاوي

اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 سنّت قاعدة عامة بغرض التفسير، مقتضاها أن السياق لا ينهض إلا شاملا للنص بما فيه الديباجة والملاحق، ومن ثم يمتنع تحميل اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان والهند ما لا يحتمله لفظه أو مقصدُه، كما يمتنع تهوين أثره حين يكون النص صريحا في إنشاء التزامات محددة.

وإذ قررت الديباجة في الاتفاقية التي نقرأها اليوم صراحة احتكام الطرفين إلى حقوقهما والتزاماتهما في إطار مبادئ منظمة التجارة العالمية، فإن هذه الإحالة تُنشئ ميزانا تفسيريا لازما، كفتاه تحرير التجارة من جهة، وحفظ حق الدولة في التنظيم وحماية أهداف الرفاه العام من جهة أخرى، وهي أهداف سيقت بين يدي الديباجة على سبيل البيان، مرتبة بذلك التزامات واستحقاقات الطرفين.

ولما كان إزالة القيود على تبادل السلع من أبرز ثمار هذه الاتفاقية، فإنه يتعين رسم البرواز الذي يؤطر هذا الجانب، إذ أُعلن عند توقيع الاتفاق في مسقط بتاريخ 18 ديسمبر 2025 أن سلطنة عمان منحت الهند نفاذا معفيا من الجمارك على 98.08% وفق الإطار التعريفي الجمركي بما يغطي 99.38% من صادرات الهند إلى سلطنة عمان من حيث القيمة، في حين قررت الهند إعفاء جمركيا على ما يعادل 78% من وفق الإطار التعريفي الجمركي الساري طرفها بما يغطي نحو 95% من وارداتها من سلطنة عمان من حيث القيمة.

وهذا الإعفاء لن يتجاوز الرسوم الجمركية عبر مختلف المنافذ، وللطرفين الاحتفاظ بحقه السيادي في بسط أنظمة الرقابة الفنية والصحية قبل عبور السلع، في حدود حماية الصحة أو البيئة، وحيث إن الاتفاقية تحتكم لمبادئ منظمة التجارة العالمية، فإن ذلك ترتب عليه ضبط الأثر المالي للإعفاء بحيث يجوز للمستورد المطالبة بالرسم الأقل، متى ما كانت الرسوم النافذة وقت عبور السلعة أدنى من المثبتة بملاحق الاتفاقية.

ويشمل الإعفاء حالات الإدخال المؤقت للمعدات المهنية ومستلزمات المعارض والمشاريع بشروط واضحة، وإعفاء السلع العائدة بعد الإصلاح خلال سنة إلا في حدود الزيادة الناشئة عن الإصلاح.

ولما كان ما كان كذلك فإن هذا الاعفاء لن يتجاوز قواعد المنشأ التي تشترط إضفاء قيمة محلية على السلعة لا تقل عن 40% قبل إعادة تصديرها، باعتبارها الضابط الذي يمنع تحويل الموانئ إلى معابر لبضائع دول ثالثة، ويضمن أن المنفعة تنصرف إلى المنتج ذي المنشأ الحقيقي والقيمة المضافة.

وإذا كانت الحالة تتجه نحو تيسير التجارة وسرعة الإفراج عن السلع جمركيا، فقد رسم الاتفاق مسار التعاون في المعايير وتقييم المطابقة، مع تسهيل الاعتراف المتبادل لشهادات الحلال، وقبول برنامج الهند الوطني للمنتجات العضوية بما يخفض كلفة الامتثال ويحد من ازدواج الاختبارات وبما لا يخالف بسط الرقابة المقررة نظاميا.

واتفق الطرفان على أنه لا تُتلف الشحنة جمركيا إلا عند وجود ضرر ثابت على الصحة العامة أو البيئة ومع إتاحة فرصة لإعادتها أو التصرف بها نظاميا، مع تبادل تقارير المختبر عند عدم المطابقة.

وإلى جانب ذلك أجازت الاتفاقية تسريع منح الموافقات التسويقية لمنتجات المستحضرات الصيدلانية الهندية متى ما ثبتت سابقة اعتمادها بواسطة جهات تنظيمية صارمة مثل الهيئة الأمريكية والأوروبية والبريطانية للدواء والغذاء، مع قبول وثائق التفتيش الخاصة بممارسات التصنيع الجيد.

وغني عن البيان أن أثر هذه الأحكام على سعر السلعة للمستهلك ليس نتيجة حتمية يفرضها نص الاتفاق، لأن المستفيد المباشر غالبا هو المستورد عند نقطة الدخول، أما انتقال المنفعة إلى السعر النهائي فيخضع لتوازنات المنافسة وهوامش الربح ورقابة حماية المستهلك، وهو تفريق لازم حتى لا تُحمّل الوثيقة وعدا اقتصاديا لا تملكه قانونا.

وحيث أن المجتمع متوجس خيفة من أن تفرط شوكة الميزان لصالح الجانب الهندي بعد تصريحات رسمية أعقبت توقيع الاتفاق بمسقط بشأن جواز أن يكون نصف عدد العاملين في الأنشطة من الهنود وأن العمانيين ليس لهم إلا النزر اليسير من فرص العمل، فإن بيان ذلك يكون على هدي مما استقر عليه في الاتفاقية وحسم المسألة من أصلها على نحو بات غير قابل للطعن.

وحيث إن الثابت بالملحق 8ب المعنون الالتزامات المحددة لسلطنة عمان في تجارة الخدمات ، جواز قيام الطرف الهندي بنقل عمالته بين فروعه في البلد الأم أو سلطنة عمان شريطة أن تخضع هذه الفئة لاشتراطات منظمة التجارة العالمية في هذا الصدد، والتي تتطلب اقتصار النقل على فئات المديرين والتنفيذين والمتخصصين ذوي المهارة العالية مع وجوب ثبوت علاقة تعاقدية سابقة مع الشركة لا تقل في الغالب عن عام واحد، ويتم هذا النقل في حدود نسبة لا تتجاوز 50% من إجمالي عدد العاملين في المنشاة الهندية ولن تخضع المنشآت الوطنية بسلطنة عمان لتطبيق هذه النسبة.

وفي هذا السياق، جاءت الاتفاقية لترفع مدة إقامة هذه الفئة في سلطنة إلى سنتين قابلة للتجديد لسنتين إضافيتين وبحد أقصى 4 سنوات، ومع احتفاظ سلطنة عمان بحق فرض اشتراطات إضافية وفقا لقوانين وأنظمة العمل السارية عند نفاذ الاتفاقية، وهذا وارد في الجدول بوصفه شرطا من شروط النفاذ وفق ما أثبته الملحق المشار إليه دون زيادة أو تعليق.

وإذ قد يلتبس على المجتمع أن هذه الترتيبات تمس التعمين، فإن الجانب الهندي نفسه أكد أنه في إطار التنقل يحترم السياسات السيادية للتوظيف والعمل في سلطنة عمان، وهو ما يرد أي توهم إلى نصابه الذي يساق في قناة لا تُسقط القواعد الوطنية ولا تمس المهن المحظورة على غير العمانيين ولا تتجاوز نسب التعمين حسب الأنشطة أو قطاعيا.

ولما كان من جوانب الاتفاق تسهيل الاستثمار فالمرجع في سلطنة عمان هو قانون استثمار رأس المال الأجنبي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 50/2019، وما صدر تنفيذا له من قرارات، وفي مقدمتها القرار الوزاري رقم 209/2020 بشأن قائمة الأنشطة المحظور مزاولة الاستثمار الأجنبي فيها، وما يطرأ عليها من تعديلات لاحقة، وبذلك يبقى المحظور محظورا ولا ترفعه شراكة تجارية ما لم يرفعه المشرع الوطني بنصه.

ومع ذلك فقد منح الجانب الهندي حق الاستثمار بنسبة 100% في مجالات حيوية مثل التعليم والصحة وفي خدمات المستشفيات مع سقف 50 سريرا، والتأمين وإعادة التأمين والخدمات المساعدة.

بينما اشترطت سلطنة عمان وجود الشريك المحلي بما لا يقل عن حصة بنسبة 30% في أنشطة مثل الاتصالات مع الإشارة إلى أن هذا القطاع يتصل بالبنية التحتية والبيانات والأمن السيبراني!!

كما اشترطت وجود الشريك المحلي بما لا يقل عن حصة بنسبة 30% في تجارة التوزيع بالجملة أو التجزئة أو الامتياز بملكية حتى 70%: وقد يسرّع ذلك انتقال الحصص السوقية إلى سلاسل أكبر على حساب منشآت صغيرة إن لم تُفعّل سياسات المنافسة وحماية المستهلك وتكافؤ الفرص.

وقصر بموجب الاتفاقية التملك للهنود على مناطق سياحية محددة، مع جواز الانتفاع بعقود لمدة 50 سنة للأراضي والمباني اللازمة للنشاط قابلة للتجديد ولعل ذلك يعد تمكين طويل الأجل في استعمال الأرض، لا سيما إذا اتسع نطاق التطبيق عمليا.

وجاء فصلا كاملا في الاتفاقية يخص المؤسسات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة لا يُنشئ التزاما تجاريا قابلا للاحتجاج القضائي مع إلزام كل طرف بالآتي:

-إنشاء أو الإبقاء على موقع إلكتروني مجاني متاح للعموم يتضمن نص الاتفاقية وملخصها ومعلومات موجهة لهذه المؤسسات عمّا يراه الطرف ذا صلة بها.

-استبعاد هذا الفصل من نطاق تسوية المنازعات، بما يجعل نفاذه الحقيقي متوقفا على الإرادة التنفيذية والبرامج المشتركة واللجان، لا على آلية إلزام قضائية أو جزائية ،كما حملت الاتفاقية على أحكام الاستثناءات العامة في الجات 1994 (المادة 20) وتمنح استثناء أمنيا واسعا، وتستبعد الضرائب المباشرة من الإعفاء وتجعل مرجعها اتفاقيات الضرائب خارج منظومة تسوية المنازعات التجارية.

واستكمالاً للبنيان التشريعي لهذه المذكرة، فإنَّ إرادة المتعاقدين قد انصرفت إلى إرساء قواعد التوازن الوقائي والتدرج الزمني كضمانات أساسية لاستدامة هذه الشراكة دون الإضرار بالمراكز الاقتصادية الوطنية؛ إذ لم تقف الاتفاقية عند حد تحرير التبادل، بل استبقت للدولة حقها السيادي في تفعيل أدوات الحماية من الإغراق والتحوط ضد التدفقات السلعية والمالية غير المتوازنة التي قد تطرأ نتيجة الانفتاح التجاري، مكرسةً بذلك حق سلطنة عُمان الأصيل في فرض رسوم حماية جبرية متى ما ثبت يقيناً تضرر الصناعة المحلية من طوفان الواردات.

ويقابله في ذات السياق القانوني ما انتهجه الجانب الهندي من اعتماد نظام سقف الحصص التعريفية لسلعه الحساسة، وهو نظامٌ يضع حداً كمياً معيناً للاستفادة من الإعفاء الجمركي، فإذا ما استنفدت الصادرات العمانية ذلك السقف، استعادت الدولة الهندية حقها في فرض التعرفة الجمركية الاعتيادية المقررة خارج إطار الاتفاقية، مما يجعل من هذا الإجراء حماية تمنعُ الاختلالات الهيكلية في الأسواق ويحافظ على استقرار المنافسة المشروعة.

وعلى هدي هذا المنطق القانوني، فإنَّ نفاذ هذه الاتفاقية لا يعني الانفتاح الكلي والمفاجئ للأسواق غداة توقيعها، بل هو نفاذٌ محكومٌ بمبدأ التدرج التشريعي الذي يراعي قدرة القطاعات الإنتاجية على المواءمة والتكيف وجاهزيتها لمقابلة الاعفاء؛ إذ نصت الملاحق التفصيلية للاتفاقية على جداول زمنية ممتدة للإعفاء من الرسوم الجمركية، تبدأ من الإعفاء الفوري لبعض السلع، وتتدرج في سلع أخرى عبر خفض سنويّ منتظم قد يمتد في بعض الأصناف الحيوية إلى عشر سنوات كاملة.

وختاما، فإن الاتفاقية غير محددة المدة، مع حق أي طرف في الإنهاء بإشعار كتابي يسري بعد 12 شهرا ولن تسري رسميا إلا بعد استنفاذ باقي خطوات المصادقة عبر أداة الإصدار السلطانية.


هذا المحتوى مقدم من شؤون عُمانية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من شؤون عُمانية

منذ 7 ساعات
منذ ساعة
منذ 19 دقيقة
منذ ساعة
منذ 24 دقيقة
منذ 4 ساعات
صحيفة الرؤية العمانية منذ 22 ساعة
هلا أف أم منذ 28 دقيقة
صحيفة الرؤية العمانية منذ 17 ساعة
صحيفة أثير الإلكترونية منذ 21 ساعة
شؤون عُمانية منذ 39 دقيقة
عُمان نيوز منذ 20 ساعة
صحيفة الشبيبة منذ ساعتين
صحيفة الرؤية العمانية منذ 7 ساعات