فعل القراءة عملية انتقاء وتخدير؛ أي «سيرورة انتقائية تبني قصديات وتحيِّنها من خلال خلق آثار معنوية محددة، تلغي من حسابها ما يمكن أن يتحقق ضمن مسارات أخرى، إنها تقوم بتخدير بتعبير إيكو ما يحتاج إلى عملية تنشيط لاحقة ليصبح قصدًا جديدًا ضمن فرضية جديدة للقراءة»، «بنكراد: السرد الروائي وتجربة المعنى» في ضوء هذا المبدأ، تأتي هذه القراءة لرواية «القبيلة التي تضحك ليلا» للروائي السعودي، سالم الصقور، محاولة للتسلل «إلى لا وعي النص من خلال ما تنتجه اللغة الواصفة والساردة»، وكما هو معروف، لا يوجد معنى مركزي في كل نص، وإنما يوجد معاني قابلة للتشييد والاستنبات.
يكمن الحدث المركزي المُحرِّك في رواية «القبيلة التي تضحك ليلا» للروائي السعودي، سالم الصقور، في سرد ظروف ولادة متعسرة لابنة بطل الرواية «علي بن سعدى/علي بن مانع»، انتهت إلى اللحاق بسابقاتها من المحاولات غير الموفقة للإنجاب، استعمل سالم الصقور، على امتداد بنائه السردي، الحدث المُحرِّك للإحاطة بظروف الإنتاج الاجتماعية والنفسية والتاريخية التي يجد الإنسان نفسه في مواجهتها عندما «كتشف» أنه غير قادر على أن يكون كما يريد «الناس» له أن يكون؛ أو عندما يريد أن يكون كما يرغب هو أن يكون.
يتمحور خطاب الرواية، على امتداد بنائه السردي، حول الدعوة إلى مواجهة «على طريقة بول ريكور» ما بين الانتقاد والاعتقاد، وما بين الانتقاد والانتماء، مواجهة معرفية إنسانية لتوضيح الإكراهات المصاحبة للانتماءات الدينية والقبلية على وجه الخصوص.
يفتتح الراوي النص بخطاب احتفائي بسلوك القبيلة التضامني المُلهم: «تناولت هاتفي الجوال من جيبي، وأرسلت في قروب العائلة حاجتي للدم، فاستنفرت القبيلة لأجلي وماضيّ وزوجتي وطفلي غير المكتمل»، حضور أخلاقي يجسد، غالبًا، حالة تضامن طبيعية ومؤاتاة إنسانية خالصة بين أبناء القبيلة.
في المقابل، يتكثف الخطاب السردي لتفكيك سلطة الانقياد والطاعة المطلقة للرؤية الأيدولوجية الحادة تجاه من لا يتبنى المعيار بكامل أدواته، سلطة ثنائية: المخالف والمؤالف تتجسد في مجموعة من المشاهد السردية الواصفة لتموضع الأيديولوجيا، وما يحدث عندما يتعلق الأمر بما لا يتسق مع نظرتها للوجود ومعيارها المتشدد، الذي أُريد له أن يحكم منظومتها، مع انعدام أية استثناء: «كانت قوى الولاء والبراء تردعه بقوة عن زيارة أبيه»؛ «كانت رحى الولاء والبراء قد دارت دورتها في حياته».
كل الانتماءات عندما تتحول إلى ثنائيات حادة: الانصهار الكلي في مكونات الانتماء وخطاباته أو الإقصاء الكلي، حتى لو تعلق الأمر بالعلاقة الجليلة ما بين الأب وابنه، تدور «أرحية» الانتماء الغارق بالتشدد الديني مستنفرة كل طاقاتها لتحقيق غاية محددة: تشييد فاعل «فرد» متقاعس يكتفي في الانصهار بالانتماء، ولا يفكر في أن يضع في منخله «الفكري» إملاءاته وانحرافاته، يكتفي بالاقتيات على -كما يقول السارد- أوهام «يسلمها السابق للاحق»، عندما يضيّق التشدد الديني الخناق على الإنسان يأخذه رهينة قابلة للبرمجة والترويض؛ ليصبح أداة تنفيذية «شرسة» لتجفيف كل ما يحرّض ويدعو إلى فضيلة الاعتراف المتبادل بين أطياف المجتمع الإنساني: «قُطع السلام، وكادت هذه المدينة تصبح بلا تحيّة يتبادلها البشر عندما يلتقي أحدهم الآخر».
تجريم السلام في أي مكان في العالم يعني تجفيف الاحترام المتبادل، رفض التنوع الثقافي، التوجس من التعددية القائمة على الاختلاف بوصفه قيمة تخضع لحق الإنسان في الاختيار، الرغبة في تصحير المجتمع من التحية، انطلاقًا من الشد الأيديولوجي أقسى ما تلفظت به أدبيات خطابات التشدد التي عشناها، ولا نرغب في انبعاثها تحت أي ظرف، أو ذريعة، أو سد من السدود الوهمية.
يطرق سالم الصقور في هذا العمل السردي ظاهرة الإيقاع من زاوية سلوكه الخطابي الاجتياحي «حتى» لبعض التابوهات الشعبية، «علبن سعدى»، بكل ما فيه من هتك للمعيار الثقافي، حظي بالمقبولية داخل الخطاب الاجتماعي نتيجة علاقة اللذة التي تجمع بين نسق القبيلة وظاهرة الإيقاع، وبتأمله لهذه الظاهرة يقول الراوي: «نحن قوم نحب الإيقاع في كلامنا «...» الإيقاع يمتزج بكل شيء لدينا، كما لو أنه ديانة وجدانية نخفيها كما نخفي العشيقات السريّات».
يسيّر الإيقاع حياة الناس داخل القبيلة وتُجيز له أن يفعل ما لا يفعل غيره، الإيقاع بما هو «تنظيم زمني للحركة يقوم على التكرار المنتظم أو شبه المنتظم لعناصر متمايزة أصوات، حركات، أحداث، ضمن بيئة متماسكة»، يتحول بانتظامه وحيويته إلى سلطة خطابية مؤثرة في عملية التلقي بكل تجلياتها الصوتية والدلالية.
يعمل التكرار عبر الإيقاع إلى مُسيّر لعلاقة الفرد بالوجود، انطلاقًا من رؤية الإيقاع للوجود، يرسم مساره بدرجة عالية من الانسجام والتماسك، حتى يجعل المنتمي ينصهر في رقصته دون أن يشعر بما ينتجه فعل الانصهار من أثر وتأثير على تشكلات الذات.
يسعى الإيقاع إلى صهر «الفواعل» المنتمية إليه في مداره الدائري، مشكلا عصبة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية
