نحن الآن فى مصر العام ١٩٢٥..
دستور ١٩٢٣ قد أُقِرَّ واستقر لتدخل به مصر عمليا عصر الدولة الدستورية الحديثة.. ملك يملك ولا يحكم وإن بمحاولات لا تنقطع للالتفاف على الواقع الدستورى.. برلمان منتخب وتداول سياسى حقيقى وصحافة تحتسب وتنقد.. وتحد من النزوة الملكية.
الوفد حزب وارف ينمو من جذوره فى مصر كلها صعيد ودلتا.. مدن وقرى.. فلاحين وأفندية كلهم فى ساحة الوفد وغيره يمارسون السياسة ويحيون الدستور.. السياسة فضاء عام - انكسر عنه طوق الاحتكار - تتفاعل فيه الأفكار من الليبرالية الدستورية إلى القومية المصرية.
لحظة تحول فارقة فى الاقتصاد..
طلعت حرب يؤسس بنك مصر ليس على كونه مصرفاً وكفى.. ولكن مشروعاً حضارياً وطنياً للاستقلال.. تحدوه فكرة أن الاستقلال السياسى لا يكون إلا باستقلال اقتصادى يحرر القرار الوطنى ويضمن سيادة حقيقية غير منتقصة.
العام١٩٢٥.. التنوير المصرى يبلغ ذروة سنامه ويحيا عصره الذهبى.. الجامعة المصرية مركزًا رصيناً لإنتاج المعرفة الحديثة، تُدَرِّس الفلسفة والعلوم والآداب بلغات متعددة.
إقدام فكرى لا تخطئه عين.. المفكرون فى قلب المجال العام، يقتحمون الركود ويتحدون السرديات الآسنة.. طه حسين والعقاد وأحمد لطفى السيد وغيرهم ممن طرح أسئلة جذرية حول التراث والعقل والتاريخ.
الشعر لسان الأمة يزدهر ويُسمِع، أحمد شوقى يُبايع أميراً لشعراء العربية -عن استحقاق - من قرائح شعرية بينها جبران ومطران ومن مثلهما. الشعر يتبنى الغناء.. ومحمد عبد الوهاب ربيباً فى الحس والفن والإبداع لأمير الشعراء.
الدين قائم.. والتدين شائع.. والمحافظة عنوان.. ولكن الدين ليس أبداً ساحة صراع سياسى أو أيديولوجى، بل إطارًا أخلاقيًا عامًا، تظله وتحميه الحرية فى الجامعة، والمسرح، والصحافة وما مثلها من فضاءات العقل المفتوحة.
سيد درويش يغادر دنيانا بعد أن يؤسس للموسيقى المصرية والعربية القائمة على الموهبة المصقولة بالدراسة والانفتاح على ذروة التأليف الموسيقى فى حينه.. ويهدى مصر قاعدة تنطلق منها أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ربيبا السياسة الفاعلة والاقتصاد المقاوم والفكر المقدام والثقافة المتحررة ومجتمع المواطنة.
الفن بمسرحه وسينماه ونحته وفنه التشكيلى يموج بطاقة وهجه من الريحانى للكسار لجورج أبيض ليوسف وهبى لمحمود مختار لمحمود سعيد.. والقائمة تكاد لا تنفد.
والكل ربيب مجتمع لم يغدو الفن فيه ترفاً ولكن درباً لبناء الذوق والوجدان واعتماد الجمال منهجاً فى الحياة.. مجتمعًا كوزموبوليتانيًا منفتحًا.. مسلمون، ومسيحيون، ويهود؛ مصريون، ويونانيون، وإيطاليون، وأرمن يتقاسمون الفضاء العام، من المقاهى إلى المسارح إلى الجامعات.
المواطنة هوية جامعة، والتديّن شأن شخصى، والتنطع فى الدين شبه غائب عن ساحة التفاعل العام.
لم يكن السؤال: من أنت ديناً؟ بل ماذا تُفكّر وماذا تضيف؟
لم تكن مصر قطعاً يوتوبيا الفاضلة.. ولا الحديث عما كانت عليه حينئذ هو حديث النوستالجيا والحنين الواهى..
فالاحتلال البريطانى سقف خفى ينتقص السيادة.. وإن تقاومه الدولة الدستورية بمشروعها الليبرالى، الاستقلال والدستور.. تظل تنافح عن ليبرالية بلا درع ودستور بلا قوة تحميه.. وسياسة تدفع لصراعات نخبوية داخل القمة بقسمة بين لاعبين ثلاث: القصر والاحتلال.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة المصري اليوم
