بعد أن استقرّ في المقالات السابقة أن الوصيّة الواجبة ليست ميراثاً، وأن إدخالها في باب الفرائض يُفضي إلى هدم نظام الحَجْب، وتغيير الأنصبة، ومجاوزة حدود الله، يبرز سؤالٌ لا يقلّ أهمية عن أصل الخلاف: كيف نُنزّل الوصيّة الواجبة في موضعها الشرعي الصحيح داخل الثلث، دون توسّعٍ يُحوّلها إلى توريثٍ مقنّع، ولا تضييقٍ يُفرغها من مقصدها الإنساني؟
فالوصيّة الواجبة لم تُشرع لتكون حقًا ماليًا ثابتًا بالقرابة، ولا لتُلحق بالأنصبة المفروضة، وإنما شُرعت بوصفها معالجةً استثنائية لحالة مخصوصة، وهي حالة الأحفاد الذين مات أبوهم قبل جدّهم، ففقدوا المعيل وخرجوا من نظام الفرائض. ومن هنا كان بابها باب إحسانٍ وجبر حاجة، لا باب استحقاقٍ عام.
غير أن الخطر العملي لا يكمن في التسمية، بل في التطبيق غير المنضبط، إذ قد تُمارَس الوصيّة الواجبة بطريقة آلية، تُعطى فيها دون نظرٍ إلى حال المستفيدين، ودون مراعاة لحقّ الموصي في ثلثه، فتتحوّل من حيث لا يُقصد إلى إرثٍ مستتر، يناقض مقاصدها، ويصادم ما تقرّر في باب الفرائض.
وأول ضابطٍ حاكم في هذا الباب أن الوصيّة إحسان، والإحسان لا يُعطى للغني. فالإرث حقٌّ ثابت يُعطى للغني والفقير سواء، أما الوصيّة فمبناها على الحاجة، وعلّتها قائمة على العوز والضعف. وقد تقرّر في القواعد الأصولية أن الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا، فإذا انتفت الحاجة انتفى موجب الإعطاء.
فلا يُتصوّر شرعاً أن يُعطى من ثلث الجد من استغنى بماله أو بورثته السابقة، لأن ذلك خروج بالوصيّة عن معناها، وتحويل لها إلى زيادة مالية بلا مسوّغ شرعي. ويتأكّد هذا الضابط عند النظر في تركة الأب المتوفّى قبل الجد، فقد يموت الابن ويترك لأولاده عقارات أو أموالًا أو رواتب وتعويضات تُغنيهم كفايةً ظاهرة.
فإعطاؤهم من ثلث الجد مع انتفاء الحاجة يُحوّل الوصيّة من جبر فاقة إلى امتياز عائلي، لا يقرّه الشرع ولا تقبله مقاصده.
ولتقريب الصورة: قد يَرِث الأحفاد عن أبيهم المتوفّى عقاراتٍ قائمة، أو تعويضاتٍ مجزية، أو مشاريع تدرّ دخلًا ثابتًا، ثم يُضاف إليهم بحكم آلي نصيب من ثلث الجد، فيجتمع لهم مالان كبيران دون حاجةٍ حقيقية. وهذا المثال يُجسّد بوضوح كيف يمكن للوصيّة، إن لم تُضبط، أن تتحوّل عمليًا إلى توريثٍ مقنّع يناقض مقصد التشريع.
ومن الضوابط القوية ربط الوصيّة الواجبة بقاعدة النفقة الشرعية، فقد قرّر جمهور الفقهاء أن الجد يُلزَم بالنفقة على أحفاده إذا كانوا فقراء لا مال لهم، فإذا كانوا أغنياء سقطت النفقة. وإذا كانت النفقة وهي واجبة مشروطة بالحاجة، فالوصيّة وهي إحسان أولى أن تكون كذلك. فانتفاء النفقة دليل على انتفاء موجب الوصيّة، وهذا ميزان فقهي يمنع التوسّع غير المنضبط.
كما لا يجوز بحالٍ مساواة الفقير بالغني في الوصيّة الواجبة، لأن.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة القبس
