قد لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد الرصاصات التي تم إطلاقها في العالم منذ اختراع الذخيرة الحية وحتى الآن، فالتقديرات غير الموثّقة تُشير إلى أنها بالمليارات، وعلى الرغم من أن تأثير كل طلقة يختلف على حسب الظروف التي أُطلقت فيها وحجم الحدث وكذلك التبعات، إلا أن بعض رصاصات الاغتيال لو تم منعها كانت ستغيّر مجرى التاريخ وتعيد رسم حدود القوة والسياسة.
هذا التغيير البسيط الذي كان من المحتمل أن يُغيّر مجرى الأحداث يُعرف باسم "أثر الفراشة"، وهو مصطلح اكتشفه عالم الرياضيات إدوارد لورينز في الستينيات، ويُشير إلى أن أي حدث صغير مهما بدا تافهًا قد يتجاوز الحدود التي نتصورها. ويمكن تطبيق أثر الفراشة على بعض الأحداث التي تركت آثار كارثية ليس فقط في حدود المنطقة التي حدثت فيها ولكن على العالم بأشره.
اغتيال "فرانس فرديناند" (1914).. صدفة غيّرت العالم
تُعد لحظة اغتيال ولي عهد النمسا، فرانز فرديناند، في 28 يونيو 1914 في سراييفو مثالًا صارخًا على ما يُعرف بـ"أثر الفراشة"، حيث يمكن لحدث صغير أن يغير مجرى التاريخ بأسره. إذ اُغتيل فرديناند، وريث عرش النمسا-المجر، على يد القومي الصربي غافريلو برينسيب، ما أطلق سلسلة من التصعيدات الدبلوماسية والعسكرية بين القوى الأوروبية، لتتحول أزمة محلية إلى الحرب العالمية الأولى.
وجاء اغتيال فرديناند محض صدفة، إذ أن موكبه تعرّض لمحاولة تفجير من قِبل مجموعة من القوميين الصرب والبوسنيين المنتمين لحركة Young Bosnia، والمدعومة جزئيًا من عناصر من السرية العسكرية الصربية تسمى Black Hand. واستخدم العناصر قنبلة قاموا بنفخها تجاه موكب فرديناند الذي كان في طريقه وزوجته صفي لزيارة لجنود الإمبراطورية، ولكنها لم تُصب سيارته واستقرت في سيارة أخرى، وبعد نجاته من المحاولة الأولى قرر فرديناند زيارة المصابين ولكن السائق ضل طريقه لينتهي به المسار في شارع مختلف صادف وجود جافريلو برينسيب، أحد المتآمرين.
في تلك اللحظة، أخرج برينسيب مسدسه وأطلق رصاصتين، الأولى قتلت صوفي بعد إصابتها في البطن، والثانية أصابت فرديناند في الرقبة. وأسفرت العملية عن وفاة الزوجان خلال دقائق قليلة.
ماذا لو لم يُغتال فرديناند؟
على الرغم من أن اغتيال فرديناند لم يكن السبب الوحيد لاندلاع الحرب، إلا أن رصاصة قتله كانت بمثابة الشرارة التي أطلقت أحداثًا غيرت العالم، ويطرح التاريخ البديل - مجال أكاديمي تخميني يضع تصورات لما يمكن أن يحدث لو حدث تغيير تاريخي معيّن- سيناريوهات أخرى لمجريات الأحداث حال نجاة فرديناند من الاغتيال. ويقول المؤرخون أن بقاء ولي عهد النمسا على قيد الحياة كان من شأنه تأجيل اندلاع الحرب العالمية الأولى أو تغيير شكلها، لكنهم في نفس الوقت يؤكدون أن التوترات السياسية والعسكرية في أوروبا - آنذاك - كانت عميقة ومعقدة، وربما كانت حرب أخرى ستندلع لاحقًا، ولكن تحت ظروف مختلفة.
ويفتح سيناريو عدم وقوع الحرب في 1914 تصورًا لعالم مختلف جذريًا، فلو لم يخطئ سائق الموكب الطريق، ولو لم يتصادف وجود "برينسيب" في تلك الزاوية، ربما بقيت الإمبراطوريات الأوروبية لفترة أطول، وتأخر انهيار النمسا-المجر وإعلانهما الحرب على صربيا، وربما منع صعود الأنظمة المتطرفة في أوروبا فيما بعد. ويرجع ذلك إلى أن فرديناند كان من التيار الداعي إلى حلول أكثر دبلوماسية.
من ناحية أخرى، كانت نجاة فرديناند ربما تؤدي لعدم ظهور النازية والتي كانت نتاج للحرب العالمية الأولى، إذ نما شعور واسع بالغضب بسبب معاهدة فرساي التي أنهت الحرب وحمّلت في نفس الوقت ألمانيا مسؤولية الصراع، مع تصاعد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وهو مكناخ ملائم لصعود الأفكار والتيارات المتطرفة، فتم تأسيس حزب صغير باسم الحزب الألماني للعمال (German Workers Party) في ميونيخ، وبمرور الوقت أصبح تحت اسم الحزب النازي الذي كان يتبنى برنامج سياسي يركز على معارضة معاهدة فرساي، القومية الألمانية، ومعاداة السامية.
اغتيال "إسحاق رابين" (1995).. رصاصة وأدت عملية السلام
كان إسحاق رابين، رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيل في أوائل التسعينيات، شخصية محورية في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، وبشكل خاص في اتفاقيات أوسلو. هذه الاتفاقيات أدت إلى اعتراف متبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأسست لإنشاء السلطة الفلسطينية بسلطة محدودة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد مثلت هذه الخطوة نقطة تحول في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ أعطت أملاً واسعًا في إمكانية الوصول إلى تسوية سلمية شاملة بعد عقود من التوتر والصراع.
وفي 4 نوفمبر 1995، اغتيل رابين على يد يغئال عامير، وهو متطرف يميني يعارض عملية السلام، أمام حشد من المؤيدين بعد مشاركته في مظاهرة سلمية في تل أبيب (عاصمة الكيان المحتل). وأدى هذا الاغتيال إلى تراجع واضح في مسار السلام وصعود اليمين المتطرف، إذ شهدت العملية السياسية صعوبات كبيرة وسياسات أكثر تشددًا من قبل القادة الذين تلوه، من بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تبنى موقفًا متشددًا ورفض اتخاذ خطوات كبرى نحو حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
ويشير كثير من المراقبين إلى أن اغتيال رابين أضعف الزخم السياسي وأدى إلى تآكل الدعم لتحقيق تسوية نهائية على أسس اتفاقيات أوسلو.
ماذا لو لم يُغتال رابين؟
إذ نجا رابين من محاولة الاغتيال، كان الزخم السياسي المصاحب لمفاوضات السلام سيظل كما هو، بحسب مؤرخين ومحللين، وكان سيمنح ذلك اتفاقية أوسلو فرصة أكبر للتقدم نحو تسوية شاملة بين الطرفين. كما يشير بعض النقاد، بمن فيهم ابنة رابين، إلى أن الأخير كان قد صرح قبل اغتياله بأنه ربما سيقوم بتقييم تقدم اتفاقيات أوسلو ويقرر ما إذا كانت قابلة للاستمرار كعملية تدريجية قبل التوجه نحو اتفاق شامل، وهو ما يعني أنه كان مستعدًا للاستمرار في البناء على العملية السلمية تدريجيًا.
من ناحية أخرى، لو لم يتم اغتيال رابين لكان يمكن تجنب انهيرا العملية السلمية بشكل كامل والتي أسفرت عن تصاعد العنف والاحتجاجات على الجانبين وتحديدًا اندلاع الانفتاضة الثانية في عام 2000، وهو ما أدى في النهاية إلى التحول من عملية تفاوضية إلى صراع مفتوح وتعطيل عملية السلام.
هذا المحتوى مقدم من العلم
