ابو بكر ابن الاعظمية
يتناول هذا البحث ظاهرة انخراط عدد من المواطنين العراقيين في صفوف الجيش الروسي، في ضوء التصريح الرسمي الذي أدلى به مستشار رئيس مجلس الوزراء العراقي حسين علاوي، والذي أشار فيه إلى أن عدد العراقيين الذين جرى تجنيدهم يناهز خمسة آلاف شخص. ولا ينطلق هذا العمل من التعامل مع الظاهرة بوصفها خبرًا إعلاميًا عابرًا أو سلوكًا فرديًا معزولًا، بل يضعها في إطارها البنيوي الأوسع، باعتبارها نتاجًا مباشرًا لتراكم أزمات الدولة العراقية على المستويات السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية، وباعتبارها مؤشرًا بالغ الدلالة على اختلال العلاقة بين الدولة ومواطنيها في مرحلة ما بعد الحروب الكبرى.
لقد شهد النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة، تحولات عميقة في طبيعة الصراعات المسلحة، إذ لم تعد الحروب تقتصر على المواجهات الكلاسيكية بين جيوش وطنية نظامية، بل باتت حروبًا طويلة الأمد، متعددة المستويات، تستند إلى منطق الاستنزاف، وتستدعي موارد بشرية متجددة. وفي هذا السياق، أصبحت الجندية، في كثير من الحالات، فعلًا تعاقديًا أكثر منها التزامًا وطنيًا، وتحول الإنسان نفسه إلى مورد استراتيجي في اقتصاد الحرب. ومن هنا، فإن انخراط عراقيين في حرب لا تمسّ أمن بلدهم المباشر لا يمكن فهمه دون العودة إلى السياق الداخلي الذي أنتج هذه القابلية، وإلى البيئة الدولية التي شجّعت على تحويل الفقر والهشاشة إلى أدوات تعبئة عسكرية.
تنطلق إشكالية هذا البحث من سؤال مركزي: كيف وصلت الدولة العراقية إلى مرحلة لم يعد فيها الوطن قادرًا على الاحتفاظ بمواطنيه داخل مشروع وطني جامع، بل بات بعضهم يجد في ساحات القتال الأجنبية بديلًا اقتصاديًا واجتماعيًا عن دولة غائبة أو عاجزة؟ ويتفرع عن هذا السؤال جملة من التساؤلات المرتبطة بطبيعة السيادة، وحدود المسؤولية القانونية للدولة، وانعكاسات الظاهرة على الأمن القومي، فضلًا عن أثرها العميق في مفهوم المواطنة والانتماء الوطني.
تعتمد هذه الدراسة المنهج التحليلي التفسيري، مع توظيف مقاربة متعددة التخصصات تجمع بين علم السياسة، والاقتصاد السياسي للحرب، والقانون الدولي، وعلم الاجتماع السياسي. كما تستند إلى تحليل الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي، وإلى مراجعة الأدبيات المتعلقة بالدول الهشّة، واقتصادات الصراع، وتحولات الجندية في النزاعات المعاصرة. والغاية من ذلك ليست توصيف الظاهرة فحسب، بل تفكيك بنيتها العميقة، وبيان أسبابها ونتائجها، واستشراف مسارات معالجتها.
إن السياق الجيوسياسي الدولي يشكّل المدخل الأول لفهم هذه الظاهرة. فقد أفرزت الحرب الروسية الأوكرانية نموذجًا جديدًا لإدارة الصراع، يقوم على الاستنزاف البشري والمادي طويل الأمد، ويقلل من أهمية التعبئة الوطنية التقليدية، مقابل توسيع قاعدة الموارد البشرية عبر استقطاب متطوعين ومقاتلين أجانب. في هذا الإطار، لم تعد الجنسية شرطًا حاسمًا للمشاركة في القتال، بل أصبحت القدرة البدنية، والاستعداد للمخاطرة، وقبول العقد المالي، عوامل كافية لتحويل الفرد إلى مقاتل. هذا التحول البنيوي في طبيعة الحروب فتح المجال أمام استقطاب أفراد من دول تعاني هشاشة اقتصادية واجتماعية، وكان العراق من بين أبرز هذه البيئات.
يُصنَّف العراق، وفق معظم المؤشرات الدولية، ضمن الدول ذات الهشاشة البنيوية المرتفعة، نتيجة تضافر عوامل متعددة، في مقدمتها الإرث الطويل من الحروب والعنف، والاعتماد المفرط على الاقتصاد الريعي النفطي، وضعف القطاعات الإنتاجية، وارتفاع معدلات البطالة، ولا سيما بين فئة الشباب. وقد أسهمت هذه العوامل في تآكل الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وفي شعور متنامٍ بالاغتراب السياسي والاجتماعي. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد الانخراط في مشروع وطني خيارًا جذابًا لدى كثيرين، بقدر ما بات البحث عن أي فرصة للنجاة الاقتصادية، حتى وإن كانت في بيئة خطرة، خيارًا عقلانيًا من منظور الفرد.
من هنا، يكتسب الاقتصاد السياسي للتجنيد أهمية مركزية في تفسير الظاهرة. فالفقر، في هذه الحالة، لا يُفهم بوصفه مجرد نتيجة لفشل السياسات التنموية، بل بوصفه متغيرًا سياسيًا فاعلًا في إعادة إنتاج العنف. إذ إن الفقر حين يقترن بغياب الأفق، وانعدام الضمانات الاجتماعية، وتراجع قيمة العمل المدني، يتحول إلى أداة تعبئة غير مباشرة، تدفع الأفراد إلى قبول مخاطر استثنائية مقابل عوائد مالية محدودة نسبيًا، لكنها تفوق ما يمكن الحصول عليه داخل الوطن. وبهذا المعنى، يصبح القتال وظيفة بديلة، ويغدو العنف المأجور شكلًا من أشكال العمل في اقتصاد مختل.
لقد أسهم انهيار قيمة العمل المدني في العراق في تعزيز هذه النزعة. فحين تعجز الدولة عن توفير وظائف مستقرة، وتفشل في دمج الشباب ضمن سوق عمل.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من وكالة الحدث العراقية
