لماذا يفشل خطاب الوصاية أمام التاريخ الجنوبي؟

ليست مشكلة الجنوب مع الوصاية مسألة رأي أو زاوية تحليل أو اختلاف في تقدير المصالح، بل مسألة وجود وهوية وصراع عميق بين منطقين متناقضين.

منطق شعب تشكّلت هويته عبر تراكمات التاريخ، ومنطق قوى ترى في الجغرافيا أداة تحكّم، وفي الشعوب عناصر قابلة للإدارة والتعليق والتأجيل، الجنوب يرفض الوصاية اليوم لا لأنه غاضب، بل لأنه لم يعترف بها يومًا، ولأن تركيبته الإنسانية والثقافية قامت منذ البدء على الانتماء الحر، لا على الخضوع، وعلى الفعل، لا على الانتظار.

الهوية الجنوبية ليست منتجًا سياسيًا معاصرًا، ولا سردية طارئة صُنعت في غرف التنظيم أو بيانات الحركات، بل بنية حضارية عميقة ضاربة في الزمن، تشكّلت قبل الدولة، وقبل الحدود، وقبل أن تتحول "الجغرافيا" إلى ذريعة سياسية تُستخدم لنزع الإرادة عن الشعوب، هذا الإنسان الجنوبي لم يتكوّن في الهامش، بل في قلب التاريخ، في أرض كانت منذ أقدم العصور مهدًا للنجاة والبقاء وإعادة التكوين.

من بعد الطوفان العظيم، كما حفظته الذاكرة الإنسانية والأسطورة والتاريخ، كانت هذه الجغرافيا مسرحًا لتشكّل الإنسان الأول في صراعه مع الطبيعة والقدر والسلطة. هنا قامت إرم، وهنا عبرت عاد وثمود، وهنا امتدت صحراء الأحقاف بوصفها فضاءً للمعنى لا فراغًا مهملًا، لم يكن الجنوب يومًا أرضًا بلا هوية، بل أرضًا سبقت تعريف الهوية ذاتها.

هذا التكوين الحضاري لم ينقطع، ولم يتحول إلى أطلال، بل أعاد إنتاج نفسه عبر العصور، بحر العرب لم يكن حدًا فاصلاً ولا نهاية للعالم، بل بوابة مفتوحة، والخلجان العظيمة لم تكن أطرافًا معزولة، بل شرايين حركة وتبادل، من هذه السواحل خرج الإنسان الجنوبي إلى الشرق والغرب، لا فاتحًا ولا تابعًا ولا مستعمِرًا، بل تاجرًا، وداعية، وباني علاقات، حامل ثقافة لا مشروع سيطرة. ولهذا لم تتشكّل هوية الجنوب في الانغلاق ولا في العزلة، بل في انفتاح واثق لا يذيب الذات ولا يفرّط في الانتماء.

في جذور تريم، حين تراكم العلم واللغة والفقه والوعي، وفي عدن، حيث استقر مسجد العيدروس شاهدًا على التقاء الروح بالتجارة والسياسة والعالم، تبلورت شخصية جنوبية تعرف كيف تجمع بين المقدّس واليومي، بين الإيمان والحياة، بين الثبات والحركة، هذه ليست حكايات تراثية تُستحضر للتزيين، بل مفاتيح لفهم إنسان تشكّلت علاقته بالسلطة والمعنى والعالم على قاعدة الاستقلال الداخلي، ولهذا، حيثما ذهبت في الشرق الآسيوي أو شبه القارة الهندية أو سواحل أفريقيا وأدغالها، ستعثر على أثر حضرمي مرّ أو استقر، أو ستشمّ رائحة البخور العدني، لا بوصفه سلعة فقط، بل بوصفه علامة على حضور إنساني طويل النفس، متجذّر، لا يزول بزوال القوى.

من هذا العمق، يصبح رفض الوصاية اليوم موقفًا طبيعيًا لا يحتاج إلى تبرير، فالإنسان الذي تشكّل عبر آلاف السنين في فضاء مفتوح، وصاغ علاقته بالعالم عبر التفاعل لا الخضوع، لا يمكن اختزاله في معادلة جغرافية باردة، ولا يمكن إقناعه بأن السيادة تُدار من الخارج، أو أن القرار الوطني يُعلّق بانتظار توازنات لا يكون طرفًا في صناعتها.

حين يُطلب من الجنوب اليوم القبول بالوصاية بحجة الجغرافيا أو الجوار أو الواقعية السياسية ، فإن هذا الطلب ليس قراءة عقلانية للواقع، بل محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة بلغة أكثر نعومة. فهذه الجغرافيا ذاتها هي التي قاومت الغزو البرتغالي في القرن السادس عشر، حين حاولت القوى البحرية الأوروبية فرض سيطرتها على الموانئ والممرات، في ذلك الزمن، لم تكن الدولة القومية قد تشكّلت، لكن الوعي الجمعي كان حاضرًا، والقتال كان دفاعًا عن الحق في القرار، لا عن راية عابرة، لم تُطرد الأساطيل بالخطابات، بل بالفعل، وكانت تلك إحدى أولى لحظات الصدام بين الجنوب ومنطق الوصاية الخارجية.

ثم جاء الاستعمار البريطاني، بأدوات أكثر حداثة، وبخطاب يدّعي التنظيم وبناء الدولة، ومع ذلك، لم تنكسر الإرادة، لم يسقط الاستعمار.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من عدن تايم

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من عدن تايم

منذ 4 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 42 دقيقة
منذ 4 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
عدن تايم منذ 16 ساعة
عدن تايم منذ 16 ساعة
صحيفة عدن الغد منذ 8 ساعات
صحيفة عدن الغد منذ 57 دقيقة
قناة عدن المستقلة منذ 4 ساعات
المشهد العربي منذ 4 ساعات
مأرب برس منذ 47 دقيقة
صحيفة عدن الغد منذ ساعتين