الذاكرة منطق السلطة وأفق الدولة

الاستعمار لم يكن في أي لحظة من التاريخ، مجرد صفحة من الماضي يمكن طيها بسهولة. بل هو اساسا تجربة تاسيسية للعالم الحديث حيث أعاد تشكيل الخرائط، وانتج اختلالات عميقة ما تزال اثارها ماثلة الى اليوم. لذلك، لم تتوقف، منذ ستينيات القرن الماضي، مطالب الاعتراف، والاعتذار وجبر الضرر، واسترجاع الاثار والممتلكات المنهوبة، سواء في افريقيا او اسيا او امريكا اللاتينية.

غير ان التعامل مع الذاكرة الاستعمارية لم يكن واحدا. الهند، مثلا، اختارت، منذ الاستقلال، مسارا سياديا لبناء الدولة، مع ابقاء ملف الذاكرة مفتوحا في الفضاء الثقافي والتاريخي. في حين ان كينيا فاوضت بريطانيا قانونيا حول جرائم التعذيب في الخمسينيات، وانتهت الى اعتراف وتعويض محدود، دون ان تجعل من القانون اداة تعبئة داخلية دائمة. اما دول الكاريبي فقد سلكت مسارا جماعيا للمطالبة بالتعويض عن العبودية، عبر طرق دبلوماسية وقانونية دولية، ادراكا منها ان الذاكرة، مهما كانت عادلة، لا تتحول الى سياسة ناجعة الا حين تدار خارج منطق الاستقطاب الداخلي.

في هذا السياق، يبرز قانون تجريم الاستعمار الذي صادق عليه مجلس النواب الجزائري في انتظار عرضه على مجلس الامة.

من حيث المبدأ، لا احد يمكنه الاعتراض على ادانة الاستعمار، ولا على المطالبة باسترجاع ما نهب من ثروات وتراث وذاكرة. لكن ما يثير التساؤل ليس المبدأ، بل التوقيت والسياق.

فالجزائر ليست دولة حديثة عهد بالاستقلال، ولا ان نظامها السياسي وليد اليوم. منذ 1962، حكم البلاد نظام استند، في بداياته، الى شرعية تاريخية، شرعية الثورة، وشرعية التحرير، وشرعية التضحيات الكبرى. رؤساء لعبوا ادوارا محورية في مقاومة الاستعمار، وشاركوا في صناعة الاستقلال. ومع ذلك لم يروا ضرورة سن قانون يجرم الاستعمار. في زمن كانت فيه الشرعية الثورية في اوجها، وحينها كانت الجزائر في موقع رمزي متقدم داخل حركة عدم الانحياز، وكانت في قلب الصراع الايديولوجي الدولي خلال الحرب الباردة، محاطة بدعم سياسي واستراتيجي واسع من الاتحاد السوفياتي وحلفائه.

هذا الغياب الطويل لا يمكن اعتباره صدفة. بل يدل على ان الذاكرة، انذاك، كانت جزءا من السردية المؤسسة للدولة، لا ورقة سياسية تحتاج الى تقنين.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو،

لماذا يستدعى هذا القانون الان، تحديدا، وفي هذا الشكل؟

الواقع ان النظام السياسي الجزائري الحالي يفتقد، الى تلك الشرعية التاريخية التي امتلكها الجيل الاول بعد الاستقلال. وبالتالي لم يعد بامكانه الاتكاء لا على رصيد الثورة، ولا على سردية التحرير، بنفس القوة والبداهة.

ففي مثل هذه السياقات، تصبح الذاكرة موردا سياسيا بديلا، تستدعى لتعويض ما يتاكل من شرعية الحاضر.

من هذا المنظور، يمكن قراءة القانون كمحاولة لاعادة انتاج شرعية تاريخية داخلية، او على الاقل استدعائها رمزيا، في لحظة تعاني فيها السلطة من ازمة ثقة، ومن ضيق في هوامش التعبئة السياسية.

والمفارقة الاكثر دلالة، ان هذا التصعيد الرمزي يتزامن مع استمرار الحضور الاقتصادي الفرنسي داخل الجزائر. فبينما يجرم الاستعمار في النصوص، تستمر العلاقات الاقتصادية والاستثمارات والتشابكات البنيوية في الواقع. وهو ما يجعل القانون مجرد خطاب موجه للاستهلاك الداخلي، وليس دعوة الى اعادة صياغة فعلية للعلاقة مع فرنسا.

ثم ان اختزال ازمات الجزائر الحالية ومعاناة المواطن الجزائري ،في الاستعمار وحده يطرح اشكالا معرفيا. فالاستعمار، مهما كانت كلفته، لا يفسر وحده تعثر التنمية، ولا يبرر استمرار اختلالات بنيوية بعد اكثر من ستة عقود من الاستقلال، في بلد توفرت له امكانات مالية وبشرية كبيرة. هنا، يتحول الماضي الى ملاذ مريح، يعفي الحاضر من مساءلة خياراته ومسؤولياته.

في الفلسفة السياسية، ينظر الى الذاكرة باعتبارها عنصرا مؤسسا للهوية، لكنها قد تتحول، اذا اسيء استعمالها، الى ذاكرة مؤدلجة ، تنتج خطاب الضحية الدائم، وتعطل القدرة على النقد الذاتي. فالمشكلة ليست في التذكر، بل في حصر معنى الدولة في الذاكرة وحدها.

الذاكرة، حين تدار بعقل الدولة، تسهم في بناء المستقبل. وحين تدار بعقل السلطة، تستعمل لتاجيل الاسئلة الصعبة.

ومع ذلك، يبقى التاكيد ضروريا على المطالبة باسترجاع ما نهب خلال فترة الاستعمار، ماديا ورمزيا، حق مشروع لا يسقط بالتقادم. لكن هذا الحق لا يمارس بالشعارات، ولا بالقوانين الرمزية وحدها، بل ببناء دولة قوية، واقتصاد مستقل، وشرعية سياسية تستمد من الحاضر، لا من استدعاء الماضي


هذا المحتوى مقدم من جريدة كفى

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من جريدة كفى

منذ ساعة
منذ ساعة
منذ 4 ساعات
منذ 53 دقيقة
منذ 3 ساعات
منذ ساعة
هسبريس منذ 4 ساعات
آش نيوز منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 15 ساعة
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 13 ساعة
هسبريس منذ ساعتين