في الجيوسياسة، يمكن أن تفضي الفوضى أحيانا إلى نظام جديد إذا انهار النظام القديم بالكامل وظهرت قوى منظمة بقيادة قادرة على تحويل الغضب إلى مؤسسات. حدث ذلك في بواكير الثورات الفرنسية أو الروسية. لكن الفوضى أنجبت في معظم الحالات، مثلما حدث في فوضانا المدفوعة من الخارج، مزيدا من التفكك والصراعات الداخلية، وعززت الاستبداد بدل خلق نظام جديد.
برز مفهوم «الفوضى الخلّاقة» في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة بوصفه إطارًا إستراتيجيًا رئيسيًا للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. وتم طرح المفهوم كتصور واعٍ يرى أن زعزعة البنى السياسية القائمة تمهّد لإعادة تشكيل المنطقة بطريقة تضمن هيمنة أميركا وقاعدتها الأمامية الاستعمارية في فلسطين. وافترض هذا التصور أن تفكيك الدول المركزية عن طريق إسقاط أنظمتها، وإضعاف مؤسساتها، ودفعها إلى صراعات داخلية مطوّلة سيؤدي في النهاية إلى نشوء نظام إقليمي أكثر قابلية للضبط وأقل قدرة على المقاومة.
لكنّ التجربة التاريخية في الشرق الأوسط كشفت عيوب هذه الفرضية وأظهرت زيفها البنيوي. إن الفوضى لا تُنتج النظام في ذاتها. إنها قد تفتح المجال له فقط إذا كانت فوضى سياسية واعية، نابعة من الداخل، تقودها قوى اجتماعية تمتلك مشروعا واضحا وقدرة تنظيمية ومخيلة مؤسسية. لكنّ «الفوضى الخلّاقة» كما أثيرت في منطقتنا لم تكن فوضى انتقالية ولا تفكيكًا نقديًا لنظام مأزوم. كانت فوضى مفروضة من الخارج، مصمَّمة لتدمير الدولة والمجتمع معًا من دون توفير أي شروط واقعية لولادة نظام جديد عادل أو مستقر.
الفوضى والخلق في الأساس مدلولان متعارضان. الفوضى تُحيل إلى التفكك، وغياب النظام، وانهيار المعنى. والخلق يحيل إلى فعلٍ واعٍ ينتج نظامًا جديدًا وبنية قابلة للحياة والاستمرار. الفوضى حالة انحلال. والخلق فعل تأسيس. والجمع بينهما في تعبير واحد ينطوي على مفارقة مقصودة تخفي اختلالًا أخلاقيًا وسياسيًا يُقدم الكوارث والدمار وتفكيك المجتمعات بوصفها مرحلة ضرورية لإنتاج نظام «أفضل»، من دون أي ضمانة حقيقية لأن يكون هذا النظام أصلح للذين يتم تدميرهم باسمه.
لم تفضِ الفوضى تلقائيا تاريخيا إلى الخلق. وأنتجت في الغالب مزيدًا من العنف والفراغ الذي يملأه الأقوى على حساب الأضعف. وكان ادعاء القدرة على إنجاب الخلق من الفوضى في منطقتنا تبريرًا أيديولوجيًا لإحداث الخراب وتسويقه كفعل عقلاني ومخطط، بينما هو في جوهره نفي لفكرة الخلق ذاتها كفعل أخلاقي ومسؤول.
كان العراق أول ضحايا هذا الترتيب. هناك تبدد الزعم بأن الحرية يمكن أن تأتي على دبابات الغرباء. لم يستهدف الغزو إسقاط النظام السياسي فحسب، بل استهدف بنية الدولة ذاتها بحل الجيش، وتفكيك الأجهزة الأمنية وإعادة صياغة الحياة السياسية على أسس طائفية وإثنية. وأدت هذه الإجراءات إلى انهيار سريع لمنظومة الحكم والإدارة، ونشأت بيئة مفتوحة أمام المقاومات المسلحة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الغد الأردنية
