التسمية بين الاستقرار والتفكيك: من الخطيب إلى دريدا وريكور

مادة إعلانيـــة لا تقتصر التسمية على كونها أداةً لتوصيف الأشياء أو تنظيم العالم، بل تشير في الآن نفسه، إلى ذات المتكلّم وتكشف عنها بقدر ما تكشف عن المسمّى، فالاسم الذي نختاره لا يدلّ فقط على ما نراه، بل يدلّ على الموقع الذي ننظر منه، وعلى شبكة القيم والافتراضات التي نتموضع داخلها، من هنا تصبح التسمية فعلَ تموضعٍ مزدوج: تموضعًا تجاه الشيء، وتموضعًا للذات داخل الفضاء الأخلاقي والاجتماعي.

كما أن التسمية لا تعمل على إعادة تشكيل الواقع فحسب، بل تُسهم أيضًا في توجيه وعي المتلقّي وتثبيت موقعٍ قيميّ مسبق لديه، فحين تُستعمل الأسماء بوصفها أطرًا جاهزة للتقييم، كما في «شهيد/قتيل»، «مقاومة/إرهاب»، «ثورة/انقلاب» لا يُقدَّم الحدث بوصفه مجالًا للفهم، بل يُدرج مباشرة داخل أفقٍ تصنيفي مُسبق.

بهذا المعنى، يكشف اختيار الاسم عن موقع المتكلّم وانحيازاته ونمط علاقته بالآخر، ويعمل، في الوقت نفسه، على إنتاج ذواتٍ متموضعة حول هذه الأسماء. فالتسمية لا تُنشئ موقفًا عدائيًّا من دون إعلانٍ صريح فحسب، بل تُطلق سلسلةً من أفعال التشييد الزائفة: تعاطف آلي، أو إدانة مسبقة، أو اصطفاف قيميّ سريع، جميعها مبنيّة على الاسم لا على فهم الواقع وتعقيداته. وهكذا لا تكون التسمية فعلَ وصفٍ بريئًا، بل ممارسة رمزيّة تُنتج الخصومة في اللغة، وتُشكّل الذوات قبل أن تتجلّى آثارها في السلوك.

من هنا يمكن القول إن أطروحة الدكتور عبدالله الخطيب في مقاله المعنون «أخلاقيّات التسمية.. والمسؤوليّة التلفّظيّة للمتكلّم»، المنشور في صحيفة الوطن يوم الخميس 23 أكتوبر 2025م، لا تكتسب أهميّتها فقط من كونها امتدادا لاشتغاله العميق على المسائل الأخلاقيّة، كما تجلّى ذلك سابقًا في كتابه «تشكلات الذات ورفض مانحي الدروس»، بل من كونها تحرض على إعادة الاعتبار للتسمية بوصفها فعلًا مُؤسِّسًا للمعنى لا مجرّد أداة تعبير.

موضحا أن التلاعب بها بهدف التأثير أو بعدم اكتراث لا يُنتج التباسًا لغويًّا فحسب، بل يُحدث انزياحًا أخلاقيًّا يمسّ علاقتنا بالذّات، وبالآخر، وبالحقيقة نفسها.

ومقاربته لـ«قلق» التسمية تأتي منسجمة مع هذا التصوّر، إذ لا يضعها في حيّز المسألة اللغويّة التقنيّة، ولا يختزلها في مجرّد توتّرٍ عابر في الاستعمال، بل يتعامل معها بوصفها عقدةً أخلاقيّة تتقاطع فيها اللغة بمسؤوليّة المتلفّظ تجاه الذات والآخرين والمجتمع، ومن ثمّ، فإنّ ما يطرحه لا يقوم على دفاعٍ ساذج عن الكلمات، ولا على حنينٍ إلى استقرارٍ لغويٍّ بريء، بل على وعيٍ حادّ بأثر التسمية، وحرص شديد على إعادتها إلى قلب السؤال الأخلاقي: ماذا يعني أن نسمّي؟ ولصالح من نسمّي؟ وعلى أيّ أساس نمنح الكلمة شرعيّتها؟، في هذا الأفق، يدافع الدكتور عبدالله عن التسمية من طريقين:

إمّا عبر الاعتراف بالتسمية بما هي نتيجة تعميدٍ سابق واستقرارٍ تداوليّ تشكّل تاريخيًّا داخل الجماعة اللغويّة،

وإمّا حين يُساء استخدام هذا الاستقرار أو يتعذّر عبر مساءلة الفاعلين الخطابيّين أنفسهم، بوصفهم محلّلين وممارسين للخطاب، وتحميلهم مسؤوليّةً صريحة تجاه ما ينتجونه من أسماء وأوصاف، وفق مقتضيات الصدقيّة، والتعاون، والملاءمة.

من هنا وبالنظر إلى دريدا، باعتباره أحد أهم المفكرين المشتغلين على الخطاب، سنجد أنّه لا يستجيب لمطلب الصدقيّة والتعاون والملاءمة بالطريقة التي تنتج الاستقرار الدلالي، فدريدا لا ينكر المسؤوليّة، لكنه يعيد صياغتها جذريًّا، إذ يرى أنّ الخطر يكمن في الاطمئنان إلى الاسم ذاته، حيث يرى أنّ المعنى لا يحضر حضورًا كاملًا في الكلمة، وأن الاسم لا يُمسك بالشيء، بل يؤجّل معناه باستمرار، فلا يكون المعنى حاضرًا، بل دائم الانزلاق، ويمكن بذلك أن نتصور استحالة تحقيق فكرة التعميد النهائي، لأنّ كل تسمية مهما بدت مستقرة تحمل داخلها إمكان الانزياح وسوء الفهم وإعادة التأويل، فالكلمة لا تنتمي إلى المتكلّم بعد التلفّظ بها، بل تنفصل عنه وتدخل في تاريخ من الاستعمالات التي لا يمكن ضبطها أخلاقيًّا أو تداوليًّا ضبطًا كاملًا.

كما أن إمكانية قيام صدقيّة خالصة في اللغة بالمنظور الدريدي لا يمكن تحقيقه، لأنّه يرى أن الصدق ذاته مشروط بالبنية اللغويّة التي تسبق المتكلم، فالمتلفّظ لا يختار الكلمات من فراغ، بل يرثها محمّلة بتواريخ وسلطات واستبعادات..

ومن هنا، فإنّ المطالبة باستقرار المعنى قد تتحوّل في نظره إلى شكلٍ.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الوطن السعودية

منذ ساعة
منذ 7 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ ساعة
منذ 3 ساعات
صحيفة سبق منذ 5 ساعات
صحيفة الشرق الأوسط منذ 4 ساعات
اليوم - السعودية منذ ساعتين
صحيفة سبق منذ 12 ساعة
صحيفة عكاظ منذ 16 ساعة
صحيفة الوئام منذ 15 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 14 ساعة
صحيفة عكاظ منذ 10 ساعات