في وقتٍ سابق من هذا العام، تابع العالم باهتمام دراما واقعية تصلح لذروة أوقات البث التلفزيوني، حين شهد مجلس إدارة عائلة مردوخ صراعاً علنياً على الخلافة. فقد انخرط أبناء قطب الإعلام روبرت مردوخ في نزاع واسع الصدى حول تعديلات على الصندوق العائلي الذي يحدد السيطرة على شركتي «فوكس كوربوريشن» (Fox Corporation) و«نيوز كوربوريشن» (News Corporation)، وهي إمبراطورية تُقدَّر قيمتها بأكثر من 20 مليار دولار أميركي.
ورغم الطابع العلني غير المعتاد لهذا النزاع، فإنه يسلّط الضوء على تحديات مألوفة تواجه الشركات العائلية في كل مكان. فالتخطيط للخلافة نادراً ما يكون مجرد مسألة تجارية بحتة؛ إذ غالباً ما تشكّله روابط عاطفية عميقة، وتوازنات قوة، ورؤى متباينة للمستقبل.
وفي الاقتصادات العربية، حيث تشكّل الشركات العائلية عموداً فقرياً للقطاع الخاص، تمتد آثار تحديات الخلافة إلى ما هو أبعد من عناوين الأخبار. فهذه الشركات تمثل النسبة الأكبر من منشآت القطاع الخاص، وتُسهم بجزء جوهري من الناتج المحلي وتوفير فرص العمل.
شركات عائلية تدرس طرح جزء من محافظها في سوق أبوظبي
قوة اقتصادية كبرى
تلعب الشركات المملوكة للعائلات دوراً مهيمناً في أكثر من اقتصاد عربي، مع اختلاف الأرقام بحسب الدولة ومصدر القياس. ففي الإمارات، يشير «دليل الشركات العائلية في إمارة دبي 2025» إلى أن قرابة 90% من الشركات المملوكة للقطاع الخاص توظف أكثر من 70% من القوى العاملة في القطاع وتستحوذ على نحو 40% من الناتج المحلي.
وفي السعودية، تذكر تقارير 2025 أن الشركات العائلية تشكل أكثر من 95% من منشآت القطاع الخاص وتُسهم بنحو 66% من ناتج القطاع الخاص، ما يضع انتقال القيادة فيها في قلب معادلة الاستقرار الاقتصادي والنمو.
ومع ذلك، تُظهر التجارب العالمية أن الاستمرارية عبر الأجيال تتطلب استعداداً خاصاً. فالتقديرات الشائعة تشير إلى أن نسبة محدودة من الشركات العائلية تتمكن من الانتقال بسلاسة إلى الجيلين الثاني والثالث. ورغم أن بعض الباحثين يشككون اليوم في دقة أرقام مثل «30-13-3»، إلا أن الاتجاه العام يؤكد أن النجاح عبر أجيال متعددة يرتبط بدرجة كبيرة بوجود حوكمة واضحة وتخطيط مبكر للخلافة.
الأبعاد غير المالية
ما يميّز الشركات العائلية عن غيرها هو ما يصفه الباحثون بـ«الثروة العاطفية-الاجتماعية»، أي القيمة غير المالية التي تستمدها العائلات من شركاتها. وتشمل هذه القيمة الإرث والهوية والسمعة والاستمرارية والطمأنينة الناتجة عن إبقاء اتخاذ القرار داخل العائلة.
ويمكن لهذه الروابط العاطفية أن تكون مصدر قوة. فقد أظهرت الأبحاث أن الشركات العائلية غالباً ما تؤدي أداءً ثابتاً خلال فترات الاضطراب، مثل الاندماجات والاستحواذات أو الأزمات المالية، لأنها تعطي الأولوية للاستقرار طويل الأجل والثقة.
لكن الروابط نفسها قد تعقّد عملية الخلافة. فقد تُشعر انتقالات القيادة العائلة بأن هويتها أو تقاليدها مهددة، ما يزيد حدة النزاعات. وبالنسبة للمؤسسين والقادة الكبار، قد يعني التنحي التخلي ليس فقط عن السلطة، بل عن جزء جوهري من ذواتهم. وعندما تُدار القرارات بدوافع عاطفية بالأساس، تتزايد مخاطر الصراع والاضطراب المالي وحتى فشل الشركة.
روبرت مردوخ مع أبنائه، جيمس على اليمين، ولاكلان على اليسار، عام 2016.
عقليات ثابتة مقابل عقليات مرنة
تسلّط أبحاث حديثة الضوء على عامل حاسم آخر: العقلية. إذ تميل العائلات إلى الانقسام بين نهجين. أحدهما يرى الأعمال بوصفها ثابتة نسبياً، ويعطي الأولوية للحذر والاستقرار حفاظاً على الإرث. والآخر ينظر إلى الشركة على أنها مرنة وقابلة لإعادة الابتكار.
وتساعد هذه الرؤى المتباينة في تفسير سبب سلاسة بعض عمليات الخلافة مقابل تحوّل أخرى إلى صراعات حادة. فالعائلات ذات العقلية المرنة تكون أكثر استعداداً للسماح للجيل القادم بإعادة تشكيل الشركة، في حين قد تقاوم العائلات التي تركّز على الحفاظ على الماضي التغيير.
مفترق طرق بين الأجيال
تقف المنطقة العربية أمام موجة انتقال ثروة واسعة ستطال ملكية وإدارة عدد كبير من الشركات العائلية. ففي يناير 2025، أشار تقرير صادر عن «مركز دبي المالي العالمي» (DIFC) إلى أن الشرق الأوسط يقف على أعتاب انتقال ثروة تاريخي يُقدَّر بنحو 1 تريليون دولار أميركي إلى الورثة خلال الفترة المقبلة. ويأتي ذلك في وقت يزداد فيه تنوّع المحافظ الاستثمارية، وتتسع فئات الأصول بما فيها الأصول الرقمية.
لكن التحدي لا يتعلق بحجم الثروة فقط، بل بمدى الاستعداد. فبحسب استطلاع حديث، لا تزال خطط الخلافة الشاملة قيد التطور لدى عدد كبير من الشركات العائلية في المنطقة، رغم الثقة المعلنة بقدرات الجيل التالي.
في الوقت نفسه، تعيد التحولات الرقمية السريعة تشكيل مختلف القطاعات، من الزراعة والبناء إلى تجارة التجزئة والخدمات. وغالباً ما يكون الخلفاء الأصغر سناً من «أبناء العصر الرقمي»، ويتمتعون بمهارات في تحليل البيانات والأتمتة والذكاء الاصطناعي. ونظراً لنشأتهم في بيئات تتسم بالتغير المستمر، يميلون بطبيعتهم إلى المرونة والتكيف.
أما المؤسسون والقادة الأكبر سناً، فتشكّلهم عقود من الخبرة المبنية على نماذج ناجحة ومجرّبة. وقد تجعل الروابط العاطفية القوية مع الأعمال التي أنشأوها من الصعب عليهم التخلي عن السيطرة أو تبنّي تقنيات غير مألوفة.
وفي هذا السياق، تبرز الحوكمة كعامل «فاصل» بين انتقال سلس وانتقال صدامي: إذ يشير تقرير «كيه بي إم جي» (KPMG) لعام 2025 إلى أن الشركات العائلية عالية الأداء ترتبط غالباً بهياكل حوكمة أوضح، وبانخراط متعدد الأجيال يدعم الاستدامة والنمو طويل الأجل، وهي عناصر تقلل عادةً مساحة الخلافات عند انتقال القيادة.
%70 من الاقتصاد العالمي بيد الشركات العائلية.. قوة تعيد رسم الأسواق
كيف تبدو الخلافة الناجحة؟
يتجاوز التخطيط الفعّال للخلافة مجرد الوثائق القانونية والهياكل المالية، إذ يتطلب التعامل المنهجي مع العوامل غير المالية المؤثرة في قرارات العائلة المالكة، بما في ذلك ديناميكيات القيادة، وتباين التوقعات، وتاريخ العلاقات داخل الشركة. وتجاهل هذه الجوانب يزيد من مخاطر سوء الفهم وتراكم الخلافات التي قد تنعكس على استقرار المؤسسة.
وغالباً ما تقوم أفضل ممارسات الخلافة على مزيج من الحوكمة الواضحة والجاهزية التنفيذية. ويشمل ذلك وضع أطر حوكمة تحدد بوضوح الأدوار والصلاحيات وآليات اتخاذ القرار، وتمكين الجيل القادم من قيادة التحول الرقمي ضمن ضوابط تحافظ على استمرارية الإرث المؤسسي، إلى جانب اختبار خطط الخلافة عملياً قبل أن تفرض الأزمات نفسها.
وفي نهاية المطاف، لا يتمثل النجاح في الخلافة في اختيار القائد التالي فحسب، بل في فهم الأسس العاطفية للعائلة، وإدراك العقليات التي توجه القرارات، وصياغة مسار يكرّم الماضي دون أن يقيّد المستقبل.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

