لم تعد أرقام التصحر في تقارير المؤسسات العراقية مجرد بيانات فنية تُتداول في سياق تحذيري عابر، بل تحوّلت إلى واقع ملموس يضغط على الجغرافيا والاقتصاد والمجتمع معاً، في بلدٍ يقوم جزء أساسي من استقراره على الأرض والماء والزراعة.
فوفق أحدث بيانات الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط، بلغت المساحات المهددة بالتصحر نحو 96.5 مليون دونم، فيما وصل إجمالي الأراضي المتصحرة فعلياً إلى 40.4 مليون دونم، وهو رقم يعكس تصاعداً خطيراً مقارنة بالسنوات القليلة الماضية، ويضع العراق أمام واحدة من أعقد أزماته البيئية والاقتصادية في آن واحد.
ارقام مرعبة
في المقابل، تكشف الأرقام الرسمية عن تقلّص حاد في الرقعة الزراعية المنتجة، إذ لم تتجاوز المساحة المزروعة الكلية خلال عام 2024 نحو 11.9 مليون دونم، توزعت بين أراضٍ ديمية وأخرى مروية، مع تراجع لافت في الأراضي التي تعتمد على مياه الأنهار إلى قرابة 1.5 مليون دونم فقط.
وهذا الانكماش لا يمكن فصله عن أزمة المياه المتفاقمة، ولا عن التحولات المناخية السريعة، ولا عن سنوات من السياسات الزراعية غير المستدامة التي أدت إلى تملّح التربة واستنزاف المياه السطحية والجوفية.
ويرى مختصون أن التصحر في العراق لم يعد ظاهرة طبيعية معزولة، بل نتيجة تراكم طويل لعوامل داخلية وخارجية، تبدأ من تراجع الإطلاقات المائية من دول المنبع، مروراً بارتفاع درجات الحرارة وتقلّب الأمطار، وصولاً إلى ضعف إدارة الموارد المائية داخلياً، سواء على مستوى التقنيات أو التخطيط أو العدالة في التوزيع.
وتُظهر المؤشرات البيئية أن فقدان الغطاء النباتي لم ينعكس فقط على الزراعة، بل أسهم أيضاً في تصاعد العواصف الترابية، وتدهور صحة التربة، واختلال التوازن البيئي، وهو ما بات ينعكس بشكل مباشر على صحة السكان، وعلى نوعية الحياة في المدن والأرياف على حد سواء.
تداعيات خطيرة
ولا تقل التداعيات الاجتماعية للتصحر خطورة عن آثاره البيئية، إذ تشهد مناطق واسعة من وسط وجنوب العراق موجات هجرة داخلية متزايدة، مع فقدان آلاف العائلات الريفية مصادر رزقها التقليدية.
وهذا النزوح يضغط بدوره على المدن، ويضعف سلاسل الإمداد المحلية للغذاء، ويزيد الاعتماد على الاستيراد، ما يفتح الباب أمام أزمات اقتصادية وغذائية متشابكة.
في هذا السياق، قال الخبير الزراعي حميد النايف لوكالة عراق أوبزيرفر إن العراق يواجه تحديات مناخية متصاعدة جعلته من بين أكثر الدول هشاشة أمام التغيرات المناخية، حيث أسهم الاحتباس الحراري، وتراجع الأمطار، وانخفاض الإيرادات المائية من دول الجوار، في إضعاف القطاع الزراعي بصورة غير مسبوقة .
وأضاف النايف أن القرى والأرياف كانت الأكثر تضرراً، إذ أدى نقص المياه وتدهور الأراضي إلى تراجع المحاصيل ونفوق أعداد كبيرة من الثروة الحيوانية، ما دفع الكثير من العائلات إلى الهجرة بحثاً عن بدائل معيشية، خصوصاً في المحافظات الجنوبية .
اختبار حقيقي للدولة
وأوضح الخبير العراقي، أن ضعف تقنين المياه وسوء توزيع الموارد المتاحة فاقما من الأزمة، في وقتٍ تشير فيه التقديرات إلى أن نحو 20% من مساحة العراق تحولت فعلياً إلى أراضٍ صحراوية، مع تحذيرات من ارتفاع النسبة إلى أكثر من 50% إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة .
وشدد النايف على أن مواجهة التصحر تتطلب استراتيجية وطنية واضحة، تشمل تحسين إدارة المياه، والتفاوض الجاد مع دول الجوار لضمان الحصص المائية، إلى جانب إطلاق برامج تشجير واسعة يمكن أن تسهم في استقرار الأرياف، وتوفير فرص عمل، والحد من الهجرة الداخلية .
وتبقى أزمة التصحر في العراق اختباراً حقيقياً لقدرة الدولة على الربط بين السياسات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، فالمعركة لم تعد محصورة في حماية الأرض فقط، بل في حماية نمط العيش، والأمن الغذائي، والاستقرار المجتمعي، في بلدٍ يدفع ثمناً متزايداً لتغير المناخ وتراكم الإخفاقات على مدى عقود.
هذا المحتوى مقدم من عراق أوبزيرڤر
