السيولة المعطلة.. لماذا لم تدخل الحسابات الادخارية في تمويل النمو؟

على مدار السنوات الماضية، اعتاد المراقبون ربط أداء الاقتصاد السعودي بسؤال واحد، ماذا عن أسعار النفط؟

لكن هذا السؤال، رغم أهميته، أصبح أقل قدرة على تفسير ما سيحدث في المرحلة المقبلة، تقارير صندوق النقد الدولي الأخيرة تعكس هذا التحول بوضوح، فبينما تبدو المؤشرات الكلية مطمئنة، نمو غير نفطي متماسك، بطالة عند مستويات تاريخية منخفضة، واستمرار زخم الإصلاحات، إلا أن الرسالة الأهم لا تُقال صراحة: عام 2026 سيكون عاماً مختلفاً.

ليس لأنه عام أزمة، بل لأنه عام اختبار، اختبار لقدرة المنظومة الاقتصادية على الانتقال من مرحلة التخطيط والتحفيز، إلى مرحلة التنفيذ الواسع تحت قيود أشد، حيث تصبح التفاصيل الفنية أكثر تأثيراً من الشعارات الكبرى.

عندما لا تبدأ الضغوط من العجز أو الدين

في النقاش العام، غالباً ما يُختزل أي تحدٍ اقتصادي في أرقام العجز والدين، لكن التجارب الدولية تشير إلى أن هذه المؤشرات نادراً ما تكون أول ما ينكسر. في المراحل المتقدمة من التحولات الاقتصادية، تظهر الضغوط أولًا في أماكن أقل وضوحاً، في قنوات التمويل نفسها.

تبدأ القصة عادة من سيولة البنوك، ومن آجال التمويل، ومن كيفية إعادة تمويل الالتزامات، ومن التداخل غير المرئي بين تمويل المشاريع الحكومية والائتمان الموجّه للقطاع الخاص، هذه ليست أزمات معلنة، بل اختناقات صامتة، تؤثر على سرعة التنفيذ وكفاءته قبل أن تظهر في البيانات الرسمية.

وهنا تكمن حساسية المرحلة المقبلة، فمع توسّع المشاريع وارتفاع متطلبات التنفيذ، لا يكون التحدي في توفر المال، بل في كيفية تدفقه واستقراره.

دروس من التجربة الأميركية

لفهم هذه المرحلة، من المفيد العودة إلى تجارب اقتصادات واجهت تحديات مشابهة، الولايات المتحدة -على سبيل المثال- مرت بعدة مراحل احتاجت فيها إلى تمويل واسع النطاق دون الإضرار بالاستقرار المالي.

بعد الحرب العالمية الثانية، واجهت واشنطن ديناً مرتفعاً ومتطلبات إنفاق ضخمة، لم يكن الحل تقليص الطموح، بل إعادة تصميم العلاقة بين الدولة والادخار المحلي، عبر أدوات ادخارية منظمة وسوق سندات عميقة، أصبحت الأسر جزءاً من منظومة التمويل طويلة الأجل، ما خفف الضغوط على البنوك وقلل مخاطر إعادة التمويل.

وتكرر المشهد بشكل مختلف في الثمانينيات والتسعينيات، مع توسّع أنظمة الادخار والتقاعد، ورغم أن الهدف كان اجتماعيًا بالدرجة الأولى، فإن الأثر الاقتصادي كان واضحًا: تدفقات منتظمة، طويلة الأجل، أقل حساسية للتقلبات، دعمت قدرة الدولة والاقتصاد على التخطيط والتنفيذ بثبات.

التجربة لم تكن مثالية، ظهرت مشكلات تخص سوء التوجيه والمخاطر الاستثمارية، لكن الدرس الجوهري بقي قائمًا، وهو أن جودة التمويل، من حيث مصدره واستقراره وآجاله، لا تقل أهمية عن حجمه.

لماذا التوقيت هو العنصر الحاسم؟

الميزة التي يتمتع بها الاقتصاد السعودي اليوم هي أن هذه الضغوط لم تتحول بعد إلى أزمة، الميزانيات العامة قوية، الثقة عالية، والخيارات لا تزال متاحة، لكن هذه الميزة تحمل في طياتها مفارقة مهمة، وهي أن أفضل وقت لمعالجة الاختناقات المستقبلية هو قبل أن تصبح مرئية، فالتحولات الكبرى لا تفشل عادة بسبب نقص الموارد، بل بسبب تأخر الانتباه إلى التفاصيل التشغيلية التي تبدو في بدايتها تقنية أو ثانوية.

عام 2026، كما توحي تقارير المؤسسات الدولية، لن يكون عامًا لإعادة النظر في الرؤية أو الاتجاه، بل عامًا لاختبار قدرة المنظومة على التنفيذ بسلاسة في بيئة أكثر انضباطًا.

السؤال الذي يستحق النقاش

من هنا، يصبح السؤال الحقيقي مختلفًا عمّا اعتدنا عليه.

ليس:

هل تستطيع السعودية التمويل؟

بل:

هل قنوات التمويل والتنفيذ مهيأة لتحمّل المرحلة القادمة دون تشوّهات، اختناقات، أو توقفات غير ضرورية؟

هذا نقاش هادئ، تقني، لكنه بالغ الأهمية، نقاش لا يبحث عن قرارات عاجلة، بل عن استعداد مبكر، ولا ينتقد ما تحقق، بل يسأل كيف يمكن الحفاظ على الزخم عندما تصبح المساحة أضيق.

في مثل هذه اللحظات، لا تُقاس قوة الاقتصادات فقط بما تملكه من موارد، بل بقدرتها على إدارة التفاصيل التي لا تُرى إلا عندما تختفي.


هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من منصة CNN الاقتصادية

منذ 3 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ ساعة
منذ ساعتين
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 5 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 20 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 9 دقائق
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ ساعة
قناة CNBC عربية منذ ساعة
قناة CNBC عربية منذ ساعة
موقع نمـازون الإقتصادي منذ ساعة
قناة CNBC عربية منذ 33 دقيقة