كريستيفا. وثورة في شعريّة اللّغة

قلّما تمتلك كتبٌ منفردة سطوةً معرفيّة على قرّائها وتمدّهم بالجرأة النظريّة على التبصُّر بأُطرهم الأيديولوجيّة مثلما كان حال سِفر «الثورة في شعريّة اللّغة» للفيلسوفة والنفسانيّة والناقدة ذائعة الصيت جوليا كريستيفا، الذي يحتفي العالَم الأكاديميّ هذه السنة بمرور نصف قرن على صدوره. وللمرء أن يستذكر سيرة كريستيفا التي تستحقّ الالتفات إليها، فهي بلغاريّة المولد والنشأة، جاهَرت بنسبِ الفضل في هجرتها إلى باريس إلى الرئيس ديغول، إذ ذكرتْ في حوارٍ معها أنّه كان صاحب فكرة عبقريّة تمثَّلت في العمل على أن تتلوَّن الأرض الممتدَّة من شواطئ الأطلسيّ إلى نهر الأورال بألوان الحضارة والفكر الأوروبيّين.

وتجسيداً لنظرته الثاقبة دأبت الحكومةُ الفرنسيّة على تخصيص منحٍ دراسيّة للشباب في بلغاريا وغيرها، ولكنّ السلطات الستالينيّة في ذلك البلد البائس كانت تُجهض تلك المُبادرة عبر تخصيص المِنَح لعجائز وشيوخ لا يتحدّثون الفرنسيّة. ولكنّ الحظّ عشيّة أعياد الميلاد في العام 1965 كان حليفاً لكريستيفا، فقد غادر مديرُ معهد الأدب الشيوعي المتزمّت، حيث كانت كريستيفا تُعِدّ أطروحتها إلى موسكو، فارتأى المُشرف على بحثها إرسالها إلى السفارة الفرنسيّة لإجراء اختبار اللّغة، فكان أن اجتازته وحزمت حقائبها إلى باريس وفي جيبها خمسة دولارات فقط.

علم الجمال

عاصرَت جوليا كريستيفا تيّاراتٍ فلسفيّة وأدبيّة متلاطمة في عاصمة النور، غير أنّ البناء النظري الذي تشكَّل وفقاً له خطابها يضرب بقوّة في تيّار التحليل النفسي، بدءاً من فرويد وصولاً إلى جاك لاكان. وعليه، فإنّ المنجزات اللّغويّة والإبداعيّة والسياسيّة لكريستيفا بصفة عامّة تتوكّأ على فكرة النموّ البشري المبكّر كما رسَمها تيّارُ التحليل النفسي. وفي هذا السياق توجِّه ناقدتُنا الكبيرة نقدَها إلى نظريّة لاكان، من أبرزها محدوديّة هذه النظريّة وقصورها. على أنّ نقدَها هذا ينبثق في حقيقة الأمر من فكرة سبْرِ غور الحدود الفاصلة بين الذّات والآخر التي أشار إليها جاك لاكان نفسه. ولاحقاً سيشكّل النِتاج النظري لكريستيفا الخيطَ النّاظمَ لأقطابِ الموجة الثانية من النسويّة الفرنسيّة، مثل إريغاري وسيكسوس وكوفمان. إلّا أنّ علاقة كريستيفا بالحركة النسويّة ستعصف بها هزّاتٌ متباينة، فقد جرى إدراجها بشكل غير دقيق في ثالوثٍ نسوي، قطبَاه الآخران لوس إريغاري وهيلين سيكسوس، فكانت كريستيفا بذلك هدفاً لانتقاداتٍ طاولت الثالوث، حيث تشابهْنَ في أنّ أيّاً منهنَّ لم تولد في فرنسا، فإريغاري من مواليد بيرنيسارت البلجيكيّة، وسيكسوس وُلدت في وهران الجزائريّة.

ومقاربة المُنجز الخاصّ بكريستيفا يغدو يسيراً لدى إبراز المكانة الفريدة التي يحتلّها الدرسُ الفلسفي للإستيطيقا (علم الجمال) في الفكر الأوروبي في القرنَيْن التّاسع عشر والعشرين، وهو خطاب تمتدّ جذوره في تيّار الفلسفة المثاليّة الألمانيّة والحركة الرومنطيقيّة. وتذهب كريستيفا إلى أنّ الإستطيقا في كلٍّ من المثاليّة الألمانيّة والرومنطيقيّة كانت تأخذ بالتشكُّل في الوقت عيْنه مع تبلْور خطاب الفلسفة السياسيّة، ويُعَدّ كتاب فردريك شيللر «في التربية الجماليّة للإنسان»، الذي نقلته إلى العربيّة وفاء محمّد إبراهيم، أبرز مثال كلاسيكي على ذلك. وهذا التعاقُد بين الإستطيقا والسياسة سيصل إلى ذروة التوهُّج في النظريّة الأدبيّة الفرنسيّة في عقدَيْ الستّينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين. وكريستيفا التي هي المُمثّل الرئيس لهذه المدرسة ستنظر للنصّ بوصفه ممارسة بالإمكان مضاهاتها بالثورة السياسيّة، بحيث إنّ إحداهما تُحدث في الذّات ما يقذفه الآخر في المجتمع.

وفي نظريّة كهذه يغدو التساؤل مشروعاً عمّا إذا كان الفنّ، وخصوصاً ذاك الفنّ المتغلغل في اللّغة، أي النسيج اللّغوي المشترَك لوجودنا، مصدراً للتجديد الاجتماعي؟ وهل يُعَدّ حقّاً تجلّياً للثورة السياسيّة؟ وهذا تساؤل يصطدم به كلّ قارئ لمتن كريستيفا الفكري، وينتظره في أيّ دربٍ يتّخذه لمُقاربة نصوصها.

قطعاً، هناك محاولة مثاليّة للدفاع عن مثل هذا الربط بين الفنّ والسياسة على وجه التحديد، في حال ثورة كريستيفا الهائلة في اللّغة الشعريّة. والتي يتأتّى من أطروحتها في إحدى تشعّباتها إلى إحداث المُمارسات الفنيّة في المُجتمع الأوروبي في أواخر القرن التّاسع عشر، تغييراً جذرييّاً في وضْع «الذّات النّاطقة»، وعلى وجه الخصوص في علاقتها باللّغة. وبما أنّ الأخيرة تنظر إليها كريستيفا بوصفها أُفق الحياة السياسيّة الذي لا يُمكن تجاوزه، فإنّ المشهد الفكري يُختزَل في ما يقوم به مقام معادلة كبرى تُماهي الثورة في اللّغة مع الثورة السياسيّة.

من جانبٍ آخر، تعرض كريستيفا في بداية كتابها «الثورة في اللّغة الشعريّة» وصفاً لكيفيّة اكتساب اللّغة وتكوين «الذّات الناطقة»، وتُعبِّر عن هذه العمليّة من خلال مفهومَيْ السيميائيّة والرمزيّة، وعملت مذّ ذاك على تطويرها حتّى.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الوطن السعودية

منذ 11 ساعة
منذ 10 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 8 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 11 ساعة
صحيفة المواطن السعودية منذ 12 ساعة
صحيفة عكاظ منذ 7 ساعات
قناة الإخبارية السعودية منذ 15 ساعة
صحيفة سبق منذ 9 ساعات
صحيفة عكاظ منذ 12 ساعة
صحيفة سبق منذ 17 ساعة
قناة الإخبارية السعودية منذ 6 ساعات
صحيفة عكاظ منذ 7 ساعات