كلما استمعت إلى عبدالوهاب وهو يشدو «أخى جاوز الظالمون المدى» تأملت الكلمات وتسألت: من هم الظالمون؟ هل هم الصهاينة أم بريطانيا دولة الانتداب، أم الأمم المتحدة التى كلفتها بالانتداب، أم هو اللورد بلفور صاحب الوعد المشئوم؟ لعل كلهم ظلموا فلسطين وشعبها ظلما فاجرا، ولكن أضيف إلى قائمة الظلمة بعض العرب الذين - إلى يومنا هذا - يرمون بأن الشعب الفلسطينى فرط فى حقه وباع أرضه وأنه سبب مصائب كثيرة حلت بالعرب.
ظلم شديد ورؤية قاصرة مشوهة. تمر علينا خلال شهر نوفمبر الجارى ذكرى مرور أكثر من مائة عام على صدور وعد بلفور الذى وصفه المؤرخون بأنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. يؤرخ قطاع كبير من الناس بهذا الوعد المشئوم كبداية للقضية الفلسطينية، وهو تاريخ مضلل، فالقضية بدأت قبل ذلك بكثير فى منتصف القرن الـ 19 بهروب وهجرة أعداد كبيرة من يهود روسيا وأوروبا الشرقية فى أربعينيات وخمسينيات القرن فرارا من بطش النظام القيصرى الروسى.
لكن لماذا توجهت هذه الجموع المهاجرة إلى فلسطين؟ السبب أن تركيا كانت العدو التقليدى لروسيا ووجهت اليهود إلى فلسطين ليخلقوا المتاعب لتركيا، فضلا على أن تركيا فى هذا الوقت كانت قد وصلت إلى درجة من الضعف تجعل فرض الأمر الواقع عليها سهلا. ويكفى الرجوع إلى مذكرات الجنرال الألمانى، ليمان فون ساندرز الذى جلبته تركيا لتنظيم جيشها التى توضح الدرك الذى وصلت له: إفلاس مالى، ورقابة إنجليزية فرنسية على ماليتها، وجنرال ألمانى يدرب وينظم الجيش التركى، وظابط بحرى بريطانى ينظم البحرية والأسطول، وضابط فرنسى ينظم الشرطة!
تزايد نسبة اليهود فى فلسطين بشكل كبير وقفزت نسبتهم من السكان من 2% فى منتصف القرن 19 إلى 10% فى بداية القرن 20. لكن قبل أن ينتهى القرن الـ 19 حدث تطور هام وخطير وهو عقد المؤتمر الصهيونى الأول برئاسة تيودور هرتزل فى مدينة بازل السويسرية فى أغسطس من عام 1898، وهو المؤتمر الذى أفصح لأول مرة عن إقامة وطن لليهود فى فلسطين بعد أن كانت الفكرة تفاضل بين الأرجنتين وأوغندا وفلسطين. وبدأ مع هذا المؤتمر النشاط المؤسس للحركة الصهيونية وتعبئة يهود العالم خلفها، ومن ثم بدأ النشاط التأسيسى للدولة اليهودية قبل صدور وعد بلفور.
جاءت الحرب العالمية الأولى وتشكل الفيلق اليهودى بمبادرة من غلاة الصهاينة فلاديمير جابوتنسكى وبنحاس روتنيج حتى يتلقى شباب اليهود التدريب العسكرى والقتالى. وكانت كوادر الفيلق حيوية أثناء حرب فلسطين وفى أعمال الإرهاب الصهيونية بعدها.
كان وعد بلفور الذى صدر فى عام 1917 فى وقت كانت بريطانيا منهكة من الحرب وتريد أن تتعلق بأى قشة لتخرج من أزمتها، فأعطت اليهود وعد بلفور للفوز بأموال أل روتشيلد وفى المقابل أعطت الشريف حسين وعدا بمملكة عربية لحثه على الانشقاق على الدولة العثمانية وفتح جبهة جديدة تخفف الضغوط عليها فى المسرح الأوروبى.
تابعت المنظمة الصهيونية الوعد بعد أن نفذت إلى أعلى مستويات السلطة البريطانية، إذ كان رئيس الوزراء لويد جورج محاميا للمنظمة واللورد روتشيلد بأمواله ووايزمان القريب من الجيش بسبب إسهاماته العلمية. أما الشريف حسين فظل يمنى نفسه بالملك حتى بعد افتضاح اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور، واستمر ابنه فيصل بعد المعاملة المهينة التى لقيها بخلعه من عرش سوريا وإجلاسه على عرش العراق.
بنهاية الحرب وهزيمة الدولة العثمانية استمر العرب فى سذاجتهم البلهاء ببناء الأمل على نقاط الرئيس الأمريكى ويلسون الأربع عشرة، حق الشعوب فى تقرير المصرير، وفى المنظمة الدولية الجديدة عصبة الأمم، فإذا بالمنظمة بدلا من إلغاء الاستعمار تجمل وجهه بمسمى جديد، هو الانتداب، ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطانى. ويتدفق على فلسطين، بتشجيع من دولة الانتداب، طوفان من المهاجرين اليهود وساد فى هذا الوقت القول الفاجر، الذى رددته الدوائر الصهيونية والإمبريالية، أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. وينكشف زيف هذا القول إذا علمنا أن فلسطين التى تبلغ مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع ويسكنها 750 ألف مواطن تبلغ كثافة السكان بها 27 نسمة فى الكيلومتر مربع، فى حين أن كثافة السكان فى كندا هى 4 فى كل كم مربع.
ازداد شعور الشعب الفلسطينى بالخذلان من عصبة الأمم ومن الولايات المتحدة التى أطلقت نقاط ويلسون الأربعة عشر، خاصة بعد فشل لجنة كينج كراين التى زارت البلاد فى عام 1919 واتضح أنها استسلمت لقرارات سايكس بيكو ووعد بلفور. فكانت ثورتهم الأولى عام 1922 بعد صدمة الانتداب والحكم البريطانى، وأصدرت بريطانيا كتابها الأبيض الأول الذى حرره وزير المستعمرات، ونستون تشرشل الذى أكد فيه على التزام بلاده بوعد بلفور مع سطور لطمأنة غير اليهود فى فلسطين على وضعهم. وكانت الهبة الكبيرة ثورة البراق سنة 1929 لحماية المسجد الأقصى من اليهود المتوافدين.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من جريدة الشروق