يكتسب كتاب "مستقر محمود درويش، الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ" للناقد السوري صبحي حديدي أهمية كبيرة، ليس فقط لأن صاحبه اقترب من درويش أكثر من غيره من النقاد، ولكن لأنه نتاج جهد خلاق في متابعة أعمال صاحب "جدارية" والدخول معها في جدل طويل، أكسب الناقد أدوات جديدة في تفكيك نصوص الشاعر، وساعده في أن يكون أكثر ديمقراطية في التعاطي مع تجارب شعرية أخرى أرادت أن تسلك مساراً مغايراً.
يعرف المهتمون بشعر محمود درويش أن حديدي كان من بين قلة من الأصدقاء، أحاطت بالشاعر واكتسبت ثقته لدرجة أنه منح بعضهم الحق في قراءة مسودات أعماله قبل نشرها، وكان حديدي على رأس هؤلاء لمدة تقترب من الـ30 عاماً، غير أن نقاداً وشعراء كثراً اتهموه بالانحياز لدرويش، وإهمال تجارب غيره من الشعراء. وعلى رغم عمق الصداقة التي جمعت الشاعر والناقد، فإن الكتاب الصادر حديثاً عن الدار الأهلية في الأردن يعد أول كتاب كامل يخصصه صاحبه للشاعر الذي خبره أكثر من غيره، ويضم حصيلة دراسات ومتابعات نشرت في مناسبات مختلفة.
الكتاب الجديد (الدار الأهلية)
منذ المقدمة يقدم حديدي كثيراً من الاعترافات التي تخص تحولات ذائقته وأساليب تطوير عدته النقدية ومنهجيته في دراسة النص الإبداعي، ويسرد حكايته مع الشاعر الذي قرأ شعره للمرة الأولى سنة 1966، وكان آنذاك في الـ15 من العمر، وقد لازمته بهجة قراءته طوال سنوات النضج الأولى، حين كان الشعر هو النوع الأدبي الذي يجتذبه، ولكن مع تغييرات السبعينيات، وتحت وطأة اعتبارات أيديولوجية وسياسية عامة، انقلب انحيازه تجاه الرواية وتراجع الشعر إلى موقع ثانٍ.
يؤكد المؤلف أن علاقته الطويلة بشعر درويش وضعته أمام مسؤوليات رفعت سقف توقعات القراء، وخلقت عنده درجة عالية من الطموح المشروع في البحث النقدي، سعياً إلى تعامل مختلف أكثر تعمقاً وجسارة مع الشاعر العربي الأكثر شهرة خلال السنوات الأخيرة، فهو عنده "القطب الأكثر أهمية ونفوذاً وإشكالية في المشهد الشعري العربي".
"أرى ما أريد"
لا يتورط حديدي في خطاب يدفع عن نفسه فيه تهمة عدم رؤية شعراء آخرين سوى درويش، لكنه يوضح أنه نشر في مناسبات أخرى مساهمات نقدية حول أكثر من 30 شاعرة وشاعراً معاصرين ينتمون إلى أزمنة وتجارب متعددة. يقرأ الكاتب تجربة درويش واعياً بأنها تجربة ولدت في قلب استقطابات متعددة حكمت طرق استقبال نصوصه وقراءتها، وخضعت التجربة ذاتها لسيرورات متعاقبة من التطور والتحول والارتقاء.
يتتبع الكتاب تلك السيرورات، لافتاً إلى انفتاح صاحبها على تجارب عربية وعالمية شكلت هويته الشعرية التي راحت في مدار مختلف، بعد خروج الشاعر من بيروت في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. يقسم حديدي تجربة درويش إلى 9 مراحل انعكست على إنتاجه الشعري في الأعمال التي نشرها تباعاً، وحتى وفاته وهي التي تمثل حجر الزاوية في الكتاب. فقد استقر فيها ذلك التوازن الثمين بين حقوق تطوير الجماليات الشعرية، مقابل واجبات ملاقاة النفوذ الأخلاقي والثقافي الذي اكتسبته القصيدة الدرويشية في الوجدان العربي.
الناقد صبحي حديدي في باريس (صفحة الناقد - فيسبوك)
وعلى رغم تنوع تلك المراحل فإنها ظلت مشدودة إلى الفكرة المركزية في مشروع صاحبها الذي كان تراجيدياً في جوهره، لكن درويش أطلق اللغة الشعرية في أفق ملحمي أصبح فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة، اتسعت لـ"تجوال غير محدود قام به الشاعر للبحث في عناصر الهوية الذاتية ضمن تفاعل الهويات". ومن جهة ثانية أسند درويش إلى الشعر دور الوسيط الخطابي بين التاريخ والمخيلة.
ترويض الجمهور
يشير حديدي في مواضع كثيرة من الكتاب إلى الكيفية التي روض بها درويش جمهوره، بحيث قاد هذا الجمهور إلى تقبل شعره الجديد الذي بدا آنذاك صعباً وغير مألوف، مما يعني أن الجماهيرية أو النجومية التي اكتسبها وكرسته شاعراً كبيراً لم تسهم أبداً في تكلس تجربته فنياً، بل على العكس ساعدته في الذهاب إلى أقصى ما يستطيع، فظل راهنه الأسلوبي نوعاً من المراجعة الدائمة لبعض ما هو قائم، والكثير مما كان في طور الولادة والتكوين.
يدرس القسم الأول من الكتاب السمات الكبرى في شعر درويش، والتي جعلت منه دائماً "شاعر الولادات الجديدة"، ومنها: الملحمة والغنائية والنزوع إلى السيرة وجدل حضور المكان في قصائده، وكذلك استراتيجيات التعبير وقصيدة الحب، وخيار السيرة في قصائده، وأنماط الاستعارة لديه وبالذات ما يتصل باستعارة "الأرض" والمجاز الذي رافقها وأراده الشاعر في إطار مفهوم يسمى "النمط الأعلى".
في حين يركز الجزء الثاني على سلسلة عريضة من الأمور والوقائع الشخصية والسجالات التي اكتنفت تجربته الشعرية والإنسانية، ويعلق على قضايا وإشكاليات ارتبطت بالشاعر مثل "أنسنة العدو" و"غراميات اليهوديات"، وأيضاً أشكال الاستقبال الإسرائيلي لشعره. ويستعيد القسم الثالث حواراً أجري لكي ينشر بالفرنسية مع حوارين.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية