لا تنفك دمشق عن مسجدها العريق الذي يتوسطها ويعد بمثابة جوهرة تاريخية تحمل في جدرانها أنفاس الزمن وروح الحضارات المتعاقبة، المسجد الأموي أو مسجد بني أمية الكبير، أو الجامع، أو مسجد دمشق، بتسمياته المختلفة، هو أكثر من مجرد بناء، وإنما قصيدة شعرية حفرت في الحجر، وسيمفونية من الرخام والزخرف للعزف، كلما سرت أمتاراً في باحته ستشعر أنك سافرت عبر القرون، فتحدثك فسيفساء الجنة فيه عن أمم مرت من هنا، ثم ترى الأعمدة الرخامية الشامخة كأجنحة الملائكة، تتوسطها قبة النسر في حرم المسجد، والتي تعطى تحتها الدروس وحلقات العلم للطلبة.
مسجد دمشق لا يقتصر نشاطه على العبادة، فتحدثك أروقته عن مصلين وعلماء وفلاسفة، وتجار وطلاب، وحتى رهبان وقادة، فيمكن القول إنه "عابر للأديان" بداية من تاريخ المسجد الأموي منذ التأسيس وحتى اليوم.
تاريخ يمتد إلى 32 قرناً
على غرار عجائب الدنيا السبع هناك ما يسمى "عجائب الإسلام السبع"، إحداها المسجد الأموي، الذي لم يكن بناؤه وليد الدولة الأموية في دمشق، وإنما يعود تاريخه إلى نحو عام 1200 قبل الميلاد عندما كانت مدينة دمشق (أقدم عاصمة في التاريخ)، عاصمة لدولة "آرام دمشق" خلال فترة العصر الحديدي، كان الآراميون في غرب سوريا يعبدون ما يسمى "إله الرعد والمطر"، فأقاموا معبداً لهم في الموقع الحالي للمسجد الأموي، وكان البناء يتبع النموذج المعماري الكنعاني التقليدي، ويتألف هذا المعبد من غرفة للعبادة يحيط بها فناء له سور.
وإلى يومنا هذا يوجد في متحف دمشق الوطني حجر من المعبد الآرامي المذكور، وبقي هذا البناء معبداً للآراميين لما يقارب 1300 سنة، حتى استولى الرومان على مدينة دمشق سنة 64 للميلاد، فقام المهندس الروماني ذو الأصول العربية "أبولودوروس الدمشقي"، بتوسعة المعبد الآرامي مع الحفاظ على هندسته الأصلية، وأصبح يعرف لاحقاً باسم "معبد جوبيتر"، وهناك معبد آخر في لبنان يحمل الاسم نفسه.
بقي وضع المعبد كما هو عليه حتى سنة 391 ميلادية، عندما أصدر الإمبراطور ثيودوسيوس الأول قراراً بتحويله إلى كاتدرائية القديس يوحنا، وبحسب بعض روايات الكتب الدينية المسيحية فإن القديس يوحنا هو نفسه النبي يحيى المدفون في المسجد الأموي، وإلى اليوم هناك قبر كبير داخل المسجد الأموي يزوره الناس على أنه "قبر النبي يحيى عليه السلام".
الأمويون في دمشق
بعد ظهور الإسلام وتوسُّعه من الجزيرة العربية تجاه بلاد الشام، فرض القائد الإسلامي خالد بن الوليد حصاراً على مدينة دمشق عام 634 ونجح في الدخول إليها بعد الاتفاق مع سكانها على تجنب الحرب، ثم تغير تاريخ دمشق كلياً بعد بدء فترة حكم الأمويين الذين نقلوا العاصمة الإسلامية من المدينة المنورة إلى دمشق، وعلى رغم ذلك بقي المسيحيون يمارسون شعائرهم في الكاتدرائية البيزنطية حتى عام 706 للميلاد، عندما أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، ببناء مسجد في موقع الكاتدرائية.
المسجد الأموي في دمشق (اندبندنت عربية) المسجد الأموي في دمشق (اندبندنت عربية)
1/5
2/5
3/5
4/5
5/5
بناء مسجد في موقع الكاتدرائية أثار سخط الرعايا المسيحيين في دمشق، فقرر الوليد حل القضية بالطرق الودية، لذلك أمر بإعادة جميع الكنائس الموجودة في دمشق، والتي كانت مصادرة، للمسيحيين لتعويضهم عن هدم جزء كبير من الكاتدرائية وتحويلها إلى مسجد، لكن الوليد مات قبل أن يتم الانتهاء من بناء المسجد الجديد، وفي سنة 715 اكتمل التشييد في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك، وسمي مسجد دمشق الجديد "مسجد بني أمية الكبير"، وبحسب كتاب "مختصر كتاب البلدان" للمؤرخ الإسلامي ابن الفقيه الهمداني، فقد شارك في بناء المسجد أكثر من 12 ألف عامل، جزء كبير منهم من الهند واليونان وبلاد فارس، إضافة إلى مهندسين أقباط، وخلال البناء الجديد تم الحفاظ على "قبر النبي يحيى" كما هو.
تدمير المسجد في عهد الفاطميين
مع إعلان قيام الدولة العباسية على أنقاض الأمويين نقل العباسيون العاصمة من دمشق إلى بغداد، وكان هناك توجه لدى الدولة العباسية بمحو كل ما له صلة بأسلافهم الأمويين، لكن مسجد دمشق نجا من التغيير، وحافظ العباسيون عليه وعلى اسمه، بل وبنوا فيه قبة جديدة في القسم الشرقي، كما بنوا "مئذنة العروس" في المسجد، لكنهم أزالوا منه النقوش الأموية.
وفي عام 970 استولى الفاطميون القادمون من مصر على مدينة دمشق، لكنهم سمحوا للمسلمين السنة بمواصلة ممارسة شعائرهم في المسجد الأموي، لكن لاحقاً قامت ثورة شعبية ضد الفاطميين تسببت في حرق وتدمير أجزاء كبيرة من المسجد، وفي عام 1078 تمكن السلاجقة الأتراك من طرد الفاطميين من دمشق، وأمر الملك السلجوقي تتش بن ألب أرسلان بإصلاح الأضرار التي أصابت المسجد في عهد الفاطميين، وتم أيضاً في عهده تجديد الفسيفساء الأموية الأصلية الموجودة في المسجد.
المغول والعثمانيون
في عام 1260 استولى المغول على دمشق ومسجدها، وأمر أمير أنطاكيا بوهيموند السادس بإقامة القداس الكاثوليكي في المسجد الأموي، وفي العام نفسه تمكن المماليك بقيادة الظاهر بيبرس وسيف الدين قطز من استعادتها.
بقي المسجد الأموي تحت سيطرة المماليك حتى عام 1516 عندما حصلت معركة مرج دابق بين المماليك والعثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول، الذين انتصروا على المماليك، وبعد الانتصار مباشرة حضر السلطان سليم أول صلاة جمعة في دمشق بالمسجد الأموي.
أولى العثمانيون للمسجد الأموي أهمية خاصة، فخصصوا 596 شخصاً للعمل في "الوقف" التابع للمسجد، ونفذوا عمليات إصلاح وتزيين عدة للمسجد.
وفي عام 1893 نفذ العثمانيون عملية إعادة ترميم كاملة للمسجد، وأثناء عملية الترميم كان أحد العمال يقوم بتدخين "النرجيلة"، فتسبب ذلك باندلاع حريق كبير في المسجد، أدى إلى تدمير معظم الفسيفساء والألواح الرخامية، كما دمر النسيج الداخلي لقاعة الصلاة وتسبب في انهيار القبة الوسطى للمسجد، وبقي المسجد تحت إشراف العثمانيين شأنه في ذلك شأن دمشق حتى عام 1918.
العهد الفرنسي
بعد فرض الانتداب الفرنسي على سوريا كان المسجد الأموي ساحة للتظاهر في كل يوم جمعة ضد السلطات الفرنسية، وكان الفرنسيون يواجهون التظاهرات في الأماكن الأخرى، لكن طوال فترة وجودهم في سوريا لم يقتحموا المسجد الأموي، نظراً إلى مكانته ولما قد يسببه الأمر من انتفاضة كبرى، كما خضع المسجد الأموي لترميمات كبرى خلال فترة الانتداب الفرنسي، استمرت هذه.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية