هناك مقاربة أخرى نضعها لكتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي) بعد قرابة نصف قرن من صدوره، من خلال استنطاق مذكرات المؤلف فهمي جدعان، والمسماة (طائر التم/حكايات جنى الخُطا والأيام 2021) وقد تجاوز الثمانين من العمر، يقول ص400: (يظهر لي أن الكتابين اللذين وضعتهما بالعربية في المدى الذي بدأت أتحرر فيه من حالة «الاستلاب الكاذب» ــ وأعنى أسس التقدم والمحنة ــ يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بوقائع حزيران والمد الإسلامي..) ثم يعترف بقوله ص404: (وأشعر بضيق شديد وأنا أدخل في دائرة الاعتراف المفضي إلى القول إنني لم أعد أتبين في التراث إلا دلالته التاريخية، ودلالته الجمالية، أما أن يكون التراث في ذاته مبدأ ماديًا فاعلًا للخروج من المأزق وأساسًا لإحداث تغيرات عميقة في وجود الأفراد والمجتمع والدولة فذاك فيما يظهر لي أمر بعيد، والارتداد إلى مشاريع مفكري التاريخ ــ من المعتزلة إلى ابن رشد ــ لن يغني عن الأمر شيئًا، والتراث الحي نفسه الذي تكلمت عنه في أكثر من موضع من كتاباتي لا يمكن أن يكون أكثر من عامل معزز للشروط الموضوعية التي تتطلب الفعل، وتحفز على القيم التي ننصبها وفق غائيات نحددها لأنفسنا اختيارًا أوليًا مطلقًا) مع اعترافه بتقدم المنتجات الفكرية (المغاربية) في زمننا الحاضر، راجع ص403، مع استرساله التعقيبي الدائم وفق (كياسته المنهجية) في محددات تحفظ له (وسطيته) ما بين قول الشيء ونقيضه إلى حد استنكاره (لمن يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول) فهل كان ينفي ذاته عندما استنكر على من عرض عليه التخلي عن فلسطينيته مقابل الجنسية الأردنية ليوافق على مضض، بينما هرول للحصول على أوراق الانتماء إلى كندا بلا تردد (راجع ص209، ص384) كل هذا عاشه ويمكن تفهمه من خلال تقلبات حياته من المخيمات إلى أرفع الجامعات علميًا في فرنسا، وعطاءً في (الكويت، قطر، سلطنة عمان...) وكانت حياة مقدرة من الجميع بالجوائز والتكريمات التي يتعطش لها ويتألم لأي مناصفة فيها (راجع ص326، ص339، ص366).
رغم كل هذه التكريمات والجوائز فقد امتلأت مذكراته بالتشكي والتبكي الضَّنك من الجميع (تقريبًا) حيث انتهيت من قراءة مذكراته وأنا أردد (إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه) ولعل من ذاق (لقمة العيش المُرَّة) في المخيمات، فلن يلومه، وسيلمس ظلال المخيمات تنوء بكلكلها على مذكرات فهمي جدعان، حتى ولو حكى فيها عن امتلاكه سيارة BMW، وما اقتناه من ماركات اللباس والإكسسوارات والعطور بشكل استعراضي غير مبرر في ثنايا الصفحات يشي بعقدة عوز أبدية، إضافة إلى ما أكسبته الظروف من (ضعف الشجاعة الفكرية) ليصبح أقرب إلى (براغماتية متدينة)، تجعلك تلاحظ في مذكراته (طائر التم) البطء الشديد والحذر في تحولاته الفكرية من (مسلم محافظ لا يستسلم لشهواته /ص217، ص238) ويترافع (عن الدين بشكل تقليدي جدًا كما يقول/ ص227) عن حياته في فرنسا أوائل الستينيات الميلادية من القرن الماضي إلى شاب (مسلم أكثر ليبرالية يشارك أنخاب الصداقة ص 239) عبر نصف قرن، ربما الذي أخر هذه التحولات هو تقاطعه النفسي مع بعض الشخصيات التي زاملها وعرفها إبان شبابه (صداقته لعبداللطيف الشيرازي الصباغ ص194، وإعجابه بحسن الترابي الملتحق آنذاك ببرنامج الدكتوراه في القانون في جامعة باريس، حيث يقول: (كان هشام أشدنا إعجابًا بالترابي/ ص202) ثم مجاورة فهمي جدعان للترابي: (كان الترابي آنذاك يقيم في الضاحية نفسها التي انتقلت أنا إليها... وقد دعانا جميعًا، أنا وهشام.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية