على مر العصور شهدت الحجاز ألواناً من الإبداع الموسيقي والغنائي والإنشادي، الذي شكل على الدوام جانباً اجتماعياً من تركيبتها السكانية والحضارية، فنسب إليها مثلاً «مقام الحجاز»، الذي يعد من مقامات الموسيقى الأساسية، والذي نشأ في مكة المكرمة ثم خرج منها إلى العالمين العربي والغربي، وقدمت لنا الإنشاد الديني منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حينما أنشد أهل يثرب «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع»، مرحبين بمقدم المصطفى عليه الصلاة والسلام من مكة مهاجراً. كما قدمت لنا القصيدة المغناة للترويج للبضائع والتأثير في المتسوقين على نحو ما حدث في قصة الخمار الشهيرة بالمدينة المنورة (قصيدة قل للمليحة في الخمار الأسود، للشاعر الحجازي أبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي).
إلى ذلك، وطبقاً للفنان السعودي القدير جميل محمود، فإن فن إيقاع الدانة الذي يعود تاريخه إلى ما قبل 870 عاماً، هو إيقاع مكي، ويعرف أيضاً بـ«الفن اليماني» نسبة إلى أحد سكان حارة الباب بمكة وهو «أبو جعفر يمن البيتي»، علماً بأن معظم نصوص الدانات من الشعر اليمني والحجازي الفصيح أو من المعلقات المعروفة.
ومن هنا لم يكن غريباً أن تنجب الحجاز قديماً وحديثاً الكثير من الأسماء التي تعملقت في عالم الغناء والطرب والموسيقى في المملكة العربية السعودية، ومنها على سبيل المثال الشريف هاشم العبدلي، وعبدالرحمن مؤذن (الأبلاتيت)، وحسن جاوه، وسعيد أبو خشبة، وصالح لبني، وإحسان قانونجي، ومحمد أحمد باجودة، وعمر باعشن، وعلي باعشن، وعبدالله مرشدي، ومحمد الريس، وفؤاد بنتن، ومصطفى إسكندراني، ومحمود حلواني، ومحسن شلبي، وإسماعيل كردوس، وعمر كدرس، وصولاً إلى طارق عبدالحكيم، وطلال مداح، وعبدالله محمد، وفوزي محسون، وجميل محمود، وغازي علي، وغيرهم. وبعض هؤلاء لعب دوراً مؤثراً وأميناً في الحفاظ على الموروث الشعبي والفلكلور الغنائي من جهة، وتطويره من جهة أخرى، والإضافة إليه من جهة ثالثة. ولعل أبرزهم هو الفنان الراحل محمد علي سندي، الذي يلقب بـ«الأمين الأول على عطاء التراث الغنائي الحجازي»، وبـ«قائد قافلة التراث الغنائي»، والذي سيكون محور حديثنا في هذه المادة بسبب عطائه الطويل وجمال صوته وإلمامه بالمقامات والمجسات المكية وشهرته بفن الدانة المكي وكفاحه من أجل نقل التراث بأمانة.
كتب عنه الزميل صادق الشعلان في مجلة «اليمامة» السعودية (25/ 6/ 2020): «يأخذك إلى مختلف العصور وأزمنتها القديمة عبر بساط من الطرب ليسمعك أجود ما جادت به قرائح الشعراء القدامى من نصوص الشعر والموشحات، متذوقاً في اختيار الجميل والعميق والمعبر والقوي منها وإعادة تدويرها بطريقة حديثة عبر إيقاع تراثي شعبي أصيل، مجسراً القديم بالحديث، فأضحى الاختيار الأمثل إنْ لم يكن الوحيد لكل راغب في الاستماع إلى فن الدانة والموشحات العربية، كونه أحد عمالقتها إنْ لم يكن ملكاً عليها. فإنْ ألفنا في كل زمان وكيلاً ومتعهداً لمنتج يهتم به ويرعاه ويكشف عن جودته، فالدانة تعهدها الفنان محمد علي سندي ورعاها وأزاح الالتباس الذي طالها وسعى إلى نشرها خارج حيز محدود أحاط بها».
وكتبت عنه آمال رتيب في «مجلة اقرأ» السعودية ( 28 / 6/ 2018): «قبل ذلك الزمن الذي تسجل فيه شهادات الميلاد، ويعرف كل إنسان بيوم مولده، كان العطاء والبصمة المميزة هي التي تسجل شهادة الميلاد، هذه المقولة تنطبق على (محمد على سندي)، الذي لم تكن الأفراح في مكة تتم إلا بحضوره، فأهل مكة والحجاز عامة يعرفون تلك الأصابع الذهبية التي تطيعها أوتار العود فتنساب ألحاناً شجية، فكل من يعرف (على العقيق اجتمعنا)، و(بات ساجي الطرف)، و(مس ورد الخد)، و(يا عروس الروض)، بالتأكيد فهو يعرف محمد على سندي».
ولد «محمد علي سندي» في مكة المكرمة سنة 1905، ونشأ في رحابها الطاهرة فكان في طفولته يصغي بانتباه إلى نداء المؤذنين وتراتيل أئمة الحرم المكي في الصلوات الجهرية. أما في صباه فقد كان يحرص على مجالسة المؤذنين ليأخذ منهم أصول فن المقام. وإبان تلك المرحلة من حياته كان يستمع أيضاً بشغف وعشق إلى أغاني أم كلثوم وموسيقى محمد عبدالوهاب وغيرهم من عمالقة الفن المصريين. إلى ذلك كان يهرع إلى أصدقائه ليلاً فيجالسهم ويشاركهم العزف والغناء وترديد المقطوعات التراثية من فن المجرور. وفي هذا السياق، قال الفنان السعودي سراج عمر ما مفاده، إن نقطة الانطلاق الأولى لسندي كانت المناسبات الاجتماعية ومجالس الطرب والأنس التي كان يقيمها أهالي مكة في منازلهم لإحياء أفراحهم ومناسباتهم الخاصة. وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً هو أن تشربه للون الغنائي التراثي كان بسبب المعرفة والصحبة الطويلة التي ربطته بعازف الكمان الفنان محمود حلواني والفنان محسن شلبي، وقد تعزز هذا الاتجاه لديه حينما راح يغني مع فناني مكة الكبار آنذاك من أمثال حسن جاوه وسعيد أبو خشبة وحسن لبني، الذين تعلم منهم العزف على العود والمزيد من ألوان الغناء الشعبي الفلكلوري القديم. ثم تلت تلك المرحلة مرحلة انتشاره التي لعبت فيها ثلاثة عوامل: صوته المميز، واعتماده التجديد والتطوير في غناء التراث الشعبي، وتوغله في الدانات المكية التي تعلم أصولها من رفاقه؛ الفنان محسن شلبي وضابط الإيقاع محمد باموسى والشيخ صالح باعرب.
شعر سندي أن الفن لا يطعم خبزاً ولا يوفر له دخلاً ثابتاً، فانتقل من مسقط رأسه وموطن ذكرياته إلى مدينة جدة، التي عثر فيها على وظيفة بمكتب المحروقات في مصلحة الطيران المدني، لكن قلبه ظل متعلقاً بمكة، فكان يذهب إلى شاطئ البحر ويشاهد النوارس البيضاء فيتذكر حمائم الحرم المكي محلقة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة عكاظ