من يتابع ردود الفعل المتباينة في العالم العربي على تصريحات ومبادرات وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك في نهاية ولاية حكومة المستشار أولاف شولتس إزاء قضايا أساسية في المنطقة، يمكنه أن يرى بشكل جليّ قمة جبل الثلج الذي تشكل لأعوام ماضية حول صورة ألمانيا لدى الشعوب والنخب ووسائل الإعلام في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل أيضا لدى الجاليات العربية في ألمانيا وأوروبا.
صورة ألمانيا ليست واحدة فهي متعددة، وهو ليس تعدد التكامل والتنوع فقط، بل تعتريه كثير من التناقضات والضبابية والتشويش لأسباب معقدة، نحاول أن نسلط عليها الضوء بهدف استشراف فرص تحسينها أو ترميمها في ظل الحكومة الألمانية المقبلة، مع الملاحظة مبدئيا بأن المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها بل هي ملقاة على مختلف مكونات المشهد السياسي والمجتمع المدني والاقتصاد والحقول الأكاديمية والإعلامية.
وفي انتظار اكتمال المشهد بعد تشكيل الحكومة الجديدة، ومعرفة ملامح الشخصيات الرئيسية التي سيكون لها دور رئيسي في توجيه سياسة ألمانيا المؤثرة على صورتها في العالم العربي، مثل وزراء الخارجية والداخلية والعدل والدفاع، يمكن الانطلاق من وثيقة الائتلاف الحاكم المقبل ومن توجهات المستشار المقبل فريدريش ميرتس.
الصورة الأولى: موقف صعب إزاء نزاع الشرق الأوسط اتسمت نبرة خطاب الدبلوماسية الألمانية خلال الأسابيع القليلة الأخيرة بصوت عال في الانتقادات التي توجهها لسياسة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وقد ظهر ذلك في الدعوة لوقف العمليات العسكرية وتمديد وقف إطلاق النار في غزة، وفي رفضها لاستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان، وفي انتقادات برلين للعمليات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وصولا إلى رفضها لخرق المجر وإسرائيل لمقتضيات مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكابه جرائم حرب في غزة.
ورغم ذلك ما تزال الدبلوماسية الألمانية تتلقى انتقادات في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والشارع وحتى لدى حكومات بالعالم العربي، بسبب دعمها العسكري والسياسي لإسرائيل، والذي أخذ أشكالا متعددة منذ الهجوم غير المسبوق الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على إسرائيل.
وعللت ألمانيا مواقفها الداعمة لإسرائيل بحق هذه الأخيرة في الدفاع عن نفسها ضد حركة حماس، التي تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أخرى كمنظمة إرهابية.
لكن الحكومة الألمانية، سواء المنتهية ولايتها أو المقبلة، تبدو في مأزق أولا بسبب مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. فألمانيا تدعم قرار المحكمة الجنائية الذي يقتضي اعتقال نتنياهو في حال زيارته ألمانيا، بيد أن ميرتس وعد بأن هذا لن يحدث مطلقًا في عهده كمستشار.
أما الوجه الثاني للتحدي، الذي تواجهه سياسة الحكومة الألمانية في الشرق الأوسط، فيكمن من ناحية عندما يحدث تقاطع بين المواقف الظرفية التي تتخذها مثلا عند انتقادها لسياسة الحكومة الإسرائيلية وبين موقفها المبدئي الداعم لإسرائيل بمقتضى المسؤولية التاريخية لألمانيا والسياق الخاص للعلاقات الألمانية الإسرائيلية، وقاعدة حماية أمن إسرائيل وحقها في الوجود كمصلحة أمنية عليا للدولة، التي باتت ثابتا من ثوابت السياسة الألمانية في الشرق الأوسط، منذ اعتمادها في خطاب للمستشارة السابقة ميركل أمام الكنيست عام 2008 عبر استخدامها مصطلح "Staatsr son" أي "مصلحة عليا بالنسبة للدولة" (الألمانية).
وثمة بعدٌ ثانِِ للتحدّي الذي يواجه السياسة الألمانية في الشرق الأوسط، يتمثل في الفجوة القائمة بين متطلبات الموقف الألماني المبدئي الداعم لإسرائيل وبين حفاظها على علاقاتها التاريخية ومصالحها مع الدول العربية ودورها في الدفاع عن حل الدولتين كقاعدة لتسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. إذ تبدو معضلة السياسة الألمانية كبيرة بسبب سوء الفهم المتفشي لمواقفها في العالم العربي، وما يزيد الطينة بلّة هو رفض حكومة نتنياهو إقامة دولة فلسطينية على أساس حل الدولتين.
وهو ما يلقي أعباء إضافية على أي حكومة ألمانية تسعى للحفاظ على صورة ألمانيا التاريخية كقوة سلام ووسيط موثوق، سواء بين إسرائيل والفلسطينيين أو بين إسرائيل ولبنان.
الصورة الثانية: معضلة ذات أبعاد داخلية لا تقف أبعاد المعضلة الألمانية على صعيد السياسة الخارجية، بل تكتسي أبعاداً معقدة مثل النظرة السلبية لوسائل الإعلام الألمانية وتراجع "مصداقيتها" في منظور قطاعات من الرأي العام في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
كما تظهر تداعيات سلبية لسياسة ألمانيا الشرق أوسطية على الصعيد الداخلي بألمانيا، في مستوى نظرة المهاجرين العرب والمواطنين الألمان المنحدرين من دول عربية. وقد ظهر ذلك في الأشهر الأخيرة بحدة في قضايا تتعلق بحرية التعبير والتظاهر، إضافة لموضوع اكتساب الجنسية الألمانية.
إذ حدث اصطدام بين نهج السلطات في حظر أي أنشطة تنطوي على مظاهر معاداة السامية وبين مبادرات وأشكال معينة في التعبير عن المساندة للفلسطينيين. كما تسبب ارتفاع منسوب الأنشطة العدائية ومظاهر معاداة السامية في مراجعات الأوضاع القانونية لمهاجرين أو حتى لحاملي الجنسية الألمانية. ومن المتوقع أن تستمر هذه المسألة في ظل اتجاه الائتلاف الحكومي الجديد لتشديد الإجراءات والتراجع عن بعض التسهيلات التي منحتها حكومة شولتس للحصول على الجنسية الألمانية. وهو ما يثير نقاشات قانونية وحقوقية، إذ لم تسلم ألمانيا من انتقادات منظمات حقوقية دولية بشأن تزايد مظاهر التمييز والعنصرية. كما يحتدم الجدل داخل المجتمع الألماني والأوساط الأكاديمية حول تأثيرات نزاع الشرق الأوسط.
إذ لاحظت دراسة أنجزها الباحثان شتيفان فوبل وياسمين المنور لفائدة مؤسسة بيرتلسمان الألمانية، أنه بالرغم من أن انتقاد إسرائيل لا يعدّ بالضرورة معاداةً للسامية، لكن في كثير من الأحيان، تُتبنى مواقف يُفترض أنها معادية لإسرائيل دون إدراك بُعدها المعادي للسامية، كما يقول خبير المؤسسة الألمانية في العلاقات الألمانية الإسرائيلية، شتيفان فوبل. من جهتها لاحظت الخبيرة في قضايا الأديان، الدكتورة ياسمين المنور أنه في بعض بلدان المنشأ للمهاجرين المسلمين، ترتكز معاداة السامية جزئيًا على أسس دينية. لذلك، ينبغي تعزيز تفسيرات الإسلام التي لا تُقسّم المجتمع، بل تُشكّل جسرًا بين الناس.
الصورة الثالثة: ماذا بقي من صورة "ماما ميركل"؟ تلعب سياسة الهجرة دورا محوريا في تشكيل صورة ألمانيا ونظرة العرب إليها.
وعندما قررت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل استقبال حوالي مليون لاجئ سوري وأرست حكومتها سياسة "الترحيب بالمهاجرين" ظهرت ميركل ومن ورائها ألمانيا لدى قطاعات واسعة من الرأي العام في العالم العربي، بوجه إنساني تاريخي، تختزله عبارة "ماما ميركل" التي أطلقها لاجئون على المستشارة السابقة ودفع الكثيرين لترشيحها لجائزة نوبل للسلام.
لكن هذه النظرة باتت في تراجع ملحوظ في السنوات الأخيرة لأسباب عديدة، تتصل بعوامل داخلية وخارجية معقدة مثل التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لأزمات عالمية مثل جائحة كورونا وحرب أوكرانيا ولتنامي تيارات اليمين المتطرف في أوروبا والاختراقات التاريخية التي حققها اليمين الشعبوي في ألمانيا، إذ أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا بعد انتخابات فبراير شباط 2025 القوة السياسية الثانية في البوندستاغ. وصولا إلى استخدام موجات اللاجئين في حروب هجينة ضد أوروبا، وتنامي مخاطر الأمن والإرهاب.
ومنذ بدأت حكومة شولتس سياسة تشديد إجراءات اللجوء وتصعيد عمليات مكافحة الهجرة غير القانونية، بتزامن مع سن سياسة أوروبية مشتركة بهذا الصدد، يرى خبراء بأن منحنى النظرة السلبية لسياسة ألمانيا في تصاعد. ومن غير المتوقع أن يتراجع في ظل الحكومة المقبلة، اعتمادا على أن اتفاق الائتلاف يميل إلى خطط حزب الاتحاد المسيحي بمزيد من التشديد لإجراءات الهجرة، وقد أكد ميرتس "سنطلق حملة لإعادة التوطين. وسنضع نهاية لبرامج القبول الطوعي وسنعلق لمّ الشمل الأسري ونزيد بوضوح عدد دول الأصل الآمنة".
وتعتبر سوريا والعراق والدول المغاربية أكثر الدول المعنية بالإجراءات الجديدة، سواء لجهة الارتفاع المتوقع في أعداد المرحّلين وما يرافق ذلك من انتقادات لظروف الترحيل ولاتفاقيات الهجرة التي توقعها أوروبا مع بعض الدول مثل تونس.
ويمكن لألمانيا تخفيف الصورة السلبية عبر نهج سياسة أكثر هجومية في مجال تسهيل الهجرة القانونية للشباب مثل الطلاب وحاملي الشهادات العليا واليد العاملة الماهرة. إضافة لإبداء مزيد من الدعم لبرامج التنمية في مناطق فقيرة تشكل مصدرا رئيسيا للهجرة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
وثمة مؤشر إيجابي يمكن الانطلاق منه في هذا السياق، ويتمثل في الترحيب الذي تلقاه خطوات الحكومة الحالية بدعم الاستقرار في سوريا والعمل من أجل رفع العقوبات الدولية ومساعدة اللاجئين والمهاجرين السوريين على المشاركة في إعادة إعمار بلدهم، الذي دمرته سنوات الحرب الأهلية وفظاعات الدكتاتورية.
الصورة الرابعة: اختبار القيم والمصالح مع تشكيلها في نهاية عام 2021، وضعت حكومة المستشار أولاف شولتس، المكونة من ائتلاف بين حزبه الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر وحزب الديمقراطيين الأحرار (الليبراليين)، الأساس لسياستها الخارجية، التي لخصتها وزيرة الخارجية آنالينا بيربوك في مفهوم "الدبلوماسية القائمة على القيم"، أي الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان ودعم حقوق المرأة. كما أطلقت بيربوك مبادرة أطلق عليها "الدبلوماسية النسائية" التي يبدو أنها ستختفي بخروج بيربوك من وزارة الخارجية.
ولكن الدبلوماسية الألمانية واجهت عدداً من المحطات المهمة التي مثلت اختباراً صعباً ومريراً في بعض الأحيان، مثل الحوار الصعب مع الصين بشأن حقوق الإنسان، في وقت كانت ألمانيا بحاجة إلى الصين كشريك تجاري مهم وشريك تفاوضي في أزمة أوكرانيا.
ويُعتبر الجدل الدائر حول حقوق المثليين وحدود تأثير السياسة على الأحداث الرياضية، الذي أُثير في كأس العالم لكرة القدم في قطر نهاية عام 2022، بمثابة الاختبار الأكبر لدبلوماسية القيم التي قادتها الوزيرة بيربوك. وبسبب ارتداء شارات داعمة لحقوق المثليين، واجه المنتخب الألماني ضغوطا كبيرة من المشجعين ووسائل.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من قناة DW العربية