في الكثير من الأحايين يحتار كاتب السير في إيجاد العنوان الملائم المصاحب لسيرة الشخصية التي يترجم لها، خصوصاً إذا كانت متشعبة الاهتمامات، متنوعة الإنجازات، أو كانت صاحبة مسيرة طويلة قادتها إلى تحمل أكثر من مسؤولية في أكثر من حقل، أو تركت خلفها أثراً هائلاً تعجز الكلمات عن وصفه، أو كانت الأولى في العديد من المجالات. وهذا تحديداً ما واجهته وأنا أكتب هذه المادة التوثيقية عن «محمد دفتردار»، العالم والأديب والمربي والمؤرخ والمترجم المدني (نسبة إلى المدينة المنورة)، فهو ليس فقط أول معتمدي المعارف بالمدينة المنورة في العهد السعودي، وليس أول من نال الشهادة العالمية من الأزهر الشريف من أبناء المدينة فحسب، وأول من ألّف الكتب المدرسية، وإنما هو أيضاً من أوائل قادة الحركة الأدبية والتعليمية في المدينة، ومن أوائل من أرخ ووثق سير الراحلين من أدباء المدينة، علاوة على أن سيرته مكتنزة بأحداث وحكايات وتقلبات كثيرة.
قال عنه الأديب المدني الكبير الدكتور محمد العيد الخطراوي: «لقد كان - رحمه الله - شعلة من النشاط لا تهدأ، قضى حياته في خدمة العلم والفكر، فهو الإداري المحنك، والمربي الخبير، والمعلم القدير، وهو المؤرخ البارع، والناقد الفارع، والموسوعي الذي لا يشق له غبار، والشاعر الرقيق، والقاص الناقد البصير، والباحث المدقق، وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد».
ولد محمد بن (محمد سعيد) بن يحيى بن (محمد سعيد) بن عمر بن علي بن عبدالرحمن دفتردار (أو الدفتدار كما يلفظها المدنيون) الحنفي المدني بالمدينة المنورة في عام 1005 لأب هو الشيخ محمد سعيد دفتردار، الإمام في المسجد النبوي والموظف في أمانة خزينة المدينة المنورة والذي توفي قبل ميلاده، ولأم هي «زليخة بنت الشيخ محمد أسكوبي».
نشأ يتيماً في كنف جده داخل أسرة علم وفضل وتاريخ ونسب عريقين هي أسرة آل دفتردار، الذين يرجع أصلهم إلى جدهم العلامة «علي أفندي بن عبدالرحمن الرومي»، «الذي قدم إلى المدينة في حدود سنة 1140 للهجرة، وكان طالباً للعلم وبارعاً في المنطوق والمفهوم وصاحب ثروة وخط حسن وأخلاق رضية وكمالات مرضية وهمة عالية، وتوفي سنة 1184 للهجرة، وأعقب من الأولاد محمداً وأبا بكر وعمر»، بحسب ما قاله عبدالرحمن بن عبدالكريم الحنفي المدني الشهير بالأنصاري في الصفحة 52 من كتابه «تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الأنساب».
وقد ذكر المترجم له في حديثه عن جده «يحيى محمد سعيد بن عمر الدفتردار» (ولد في المدينة ونشأ بها وحضر فيها حلقات المسجد النبوي قبل أن يقصد الأستانة طلباً للعلم، حيث تعلم فيها التركية والفارسية والفرنسية وعلوم التاريخ والجغرافيا ونال الشهادات العالية وشغل المناصب الرفيعة في الدولة العثمانية ومنها منصب الدفتردار، وحينما عاد إلى المدينة المنورة تولى التدريس والإمامة والخطابة بالمسجد النبوي، ثم عُين محتسباً للمدينة ورئيساً لأدلاء المسجد النبوي، فقاضياً، وذاع صيته لدرجة أن السلطان العثماني عبدالحميد منحه لقب «كبير الخطاء» زمن افتتاح خط سكة حديد الحجاز)، وأن الأسرة من أصل بلقاني (ألباني) هاجرت إلى مدينة حماة السورية، ومنها إلى المدينة المنورة في عام 1100 للهجرة. أما شقيق المترجم له «هاشم محمد سعيد الدفتردار» فقد قال في كتابه «ذكريات طيبة» إن أسرة الدفتردار يعود نسبها إلى الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، الذي انتشرت ذريته كبقية الصحابة في الأرض من أجل الدعوة إلى الإسلام.
وبعيداً عن النسب والأصل، فإن لقب «الدفتردار» من الفارسية بتركيب تركي، وهو مكون من كلمتين «دفتر» بمعنى سجل و«دار» بمعنى الماسك أو القابض، فيصبح المعنى «ماسك السجلات»، وهي وظيفة كانت من أعلى وظائف الدولة العثمانية، وتقابلها اليوم وظيفة وزير المالية أو وظيفة رئيس الديوان.
التحق الدفتردار في سن الثامنة بكتاب «السنبلية» الشهير بالمدينة المنورة، فحفظ وأتم القرآن الكريم وجوّده. وصلى به التراويح في المسجد النبوي وهو في العاشرة من عمره (كان من عادة الأسر الحجازية، بعد ختم وحفظ أبنائها لكتاب الله، أن يدفعوا بهم لقيادة صلاة التراويح وسط الاحتفاء والفرح بهم).
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وحاصر القائد العسكري التركي فخري باشا المدينة المنورة، قام الأخير بما يعرف بجريمة «سفر برلك»، وهي عملية تهجير قسري لأهل المدينة المنورة إلى الشام والأناضول، فكانت أسرة المترجم له ضمن من تمّ تهجيرهم إلى تركيا.
عاش الدفتردار مع جده يحيى فترة من الزمن في مدينة قونيه التركية، قبل أن ينزح مع والدته وإخوانه إلى دمشق التي التحق فيها بمدرسة الصنائع العثمانية. وبعد وفاة والدته انتقل مع شقيقيه هاشم وعلي من دمشق للاستقرار في بيروت، حيث عمل فيها مع شقيقيه في مهنة الندافة نهاراً، وفي مهنة حراسة البضائع التجارية بميناء بيروت ليلاً. وكان أخوه «هاشم محمد سعيد الدفتردار» قد سافر وقتها إلى مصر للدراسة بالأزهر الشريف بمساعدة من مفتي لبنان، فأتم دراسته هناك وتخرج وعاد إلى لبنان وعمل مدرساً بمدارس بيروت وبكلية فاروق الأول الشرعية في بيروت، وواعظاً بجوامعها. ولعل هذا كان دافعاً لمحمد الدفتردار للاقتداء بأخيه، فسافر هو الآخر إلى القاهرة في حدود عام 1929 والتحق بالأزهر الشريف بعد أن تم اختباره بنجاح في «ألفية ابن مالك» وكتاب المعلقات. ومكث فيها قرابة العشر سنوات وهو يتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي والعالي (في كلية اللغة العربية) إلى أن تخرج حاملاً شهادة الأزهر العالمية مع إجازة التدريس العام في عام 1943. ويذكر لنا الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي في مقاله عن الدفتردار بصحيفة «الجزيرة» السعودية (11/ 11/ 2017) أن صاحبنا كان يُصرف له إبان دراسته في الأزهر نصف جنيه شهرياً. ومن أجل تحسين وضعه المعيشي، راح يعمل بإحدى المطابع في مهنة «مصحح لغوي» مقابل قرش واحد لتصحيح الصفحة الواحدة، فكان يسهر لتدقيق وتصحيح 50 صفحة كي يحصل على نصف جنيه يومياً (ذكر القشعمي خطأ كلمة مليم بدلاً من قرش).
بعد غياب قسري عن المدينة المنورة امتد إلى أكثر من ربع قرن، وبعد أن تغيرت أحوال العالم السياسية ونشأت أوضاع جديدة في مسقط رأسه عاد الدفتردار إلى المدينة، فعمل في التدريس، بل قاده حماسه لنشر العلم والمعرفة إلى تأسيس ما يقارب الثلاثين مدرسة في المدينة المنورة وضواحيها، كانت من.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة عكاظ
