الفاشر.. المدينة التي طالما أحببتها

مصدر الصورة: BBC

تعود علاقتي بمدينة الفاشر إلى نحو عقدين من الزمان، وتحديدًا إلى نهاية العام 2005، وذلك عندما زرتها للمرة الأولى كصحافي مرافق لوفد من الأمم المتحدة كان يسعى لتقييم الاحتياجات الإنسانية للنازحين الذين تضرروا مع بداية أزمة إقليم دارفور التي اندلعت في عام 2003.

ولم أكن أدري أن تلك الزيارة ستجعل هذه المدينة هي الأقرب الي نفسي دون سائر المدن السودانية.

كرم وتعايش ولطف بعد ذلك تكررت زياراتي إلى المدينة من أجل تغطية الأحداث ونقل الوقائع، بعد أن أصبحت مركزا لصناعة الأحداث نظرًا لوجود عدد كبير من مخيمات النزوح فيها واختيارها لتكون مقرًا رئيسيًا لأكبر بعثة حفظ سلام في العالم كما سنعرف لاحقًا.

هذه الزيارات المتكررة أتاحت لي الفرصة لأتعرّف على أهلها وطباعهم عن قرب وأكوّن صداقات قوية مع من تعاملت معهم من قادة وسكان المخيمات وسائقي تاكسي وعاملين في المجال الإنساني، وهذا الأمر جعلني أرتبط بها وجدانيًا دون مدن السودان التي زرتها.

لطالما تعاملت مع هذه المدينة، التي دمّرتها الحرب التي اندلعت فيها بين الجيش وقوات الدعم السريع، باعتبارها قرية كبيرة نظرًا لطبائع أهلها القروية مثل الكرم الشديد والتسامح والتعايش وعدم الميل للعنف، وقبول الآخر والاحتفاء واللطف به.

لذا لم يكن مستغربًا عندما اجترح سكانها وقادتها الأهليون مسلكًا جنّب المدينة ويلات الحرب ولو لفترة إثر اندلاعها في معظم أنحاء البلاد في أبريل/نيسان من العام 2023.

كانت الفكرة تقوم على التعايش بين المكونات العسكرية الموجودة، وهي الجيش وقوات الدعم السريع والفصائل المسلحة المكوِّنة للقوات المشتركة فيها، دون اللجوء إلى القتال.

ونجحت الفكرة في إبقاء المدينة خارج دائرة الاقتتال والعنف لفترة قاربت العام، ولكن ذلك لم يستمر بعد تباعد المواقف السياسية بين المكونات العسكرية، فانهار كل شيء واندلع فيها قتال ضارٍ وعنيف، أدّى إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخص حسب تقديرات الأمم المتحدة وإلى دمار المدينة ومرافقها الحيوية، بما فيها متحف السلطان علي دينار الأثري الذي يحتوي على مقتنيات توثّق وتحفظ ذاكرة دارفور.

تضامن وتكافل تضم الفاشر معظم الإثنيات والقبائل في السودان التي تعيش في تجانس ومحبة، ولا تشعر بأي كراهية بينهم وأنت تسير في شوارعها الرملية، بالرغم من أنها من أكثر المدن التي تأثرت بالحرب الأهلية التي اندلعت في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بل إن شرارة الحرب انطلقت منها عندما هاجم مسلحون يتبعون للفصائل المسلحة مطار المدينة عام ألفين وثلاثة في خطوة يقولون عنها إنها كانت تهدف إلى الإعلان عن أنفسهم ومطالبهم المتعلقة بالتنمية والمشاركة في السلطة السياسية مع الحكومة المركزية في الخرطوم.

أذكر في زيارتي الأولى لها أنني ذهبت إلى السوق عصرًا لأشتري مواد غذائية، وعندما شرع صاحب أحد البقالات في الاستماع لطلباتي، جاء أحدهم وأخبره أن والد أحد التجار توفي قبل قليل، فتوقف عن البيع وأغلق محله، وبعدها أغلقت كل محلات السوق أبوابها وخرج التجار والباعة من السوق، وتوجهوا نحو المقابر ليشاركوا في عملية الدفن. وهو مؤشر على التضامن والتكافل بين السكان قلَّ أن تجدهما في سوق تجاري في مدينة أخرى.

على عكس بقية سكان المدن الأخرى، لا يساوم التجار كثيرًا بشأن البيع والشراء، ولديهم عبارة شهيرة في التعامل التجاري: "بالبركة".

الملاحظة التي لا يمكن تجاهلها هي أن نسبة الأمان في الفاشر ظلّت عالية بالرغم من أن الحرب الأهلية انطلقت منها. فكنت أتجول فيها في الأمسيات وأزور العديد من المناطق وأعود إلى الفندق دون أن أتعرض لأي مشكلة، حيث لا توجد عمليات سطو مسلح وقتها كما يحدث في بقية مدن دارفور الرئيسية مثل مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور مثلا.

"الفاشر مدينتي.. لن أتركها لأحد" اشتهرت مدينة الفاشر بصناعة "المراكيب" وهي أحذية تقليدية مصنوعة من جلد الماعز يرتديها الرجال مع الجلابيب والعمامة.

في سوق المدينة تنتشر المحلات التي تُصنع وتباع فيها المراكيب، وعندما تصل إلى المكان تشم رائحة الجلد المدبوغ وتشاهد العشرات من الحرفيين المهرة وهم منهمكون في التوضيب والخياطة.

تعرفت علي محمد إبراهيم أبكر وهو من أشهر الصناع والتجار في السوق، وربطتني به علاقة صداقة قوية.

والسبب هو حبّه الشديد لإذاعة البي بي سي على غرار معظم أهل السودان، ولكن بالنسبة لسكان الفاشر كانت محبتهم أقرب إلى التقديس.

يقولون إنها المصدر الأول الموثوق للأخبار، وخاصة تلك المتعلقة بالنزاع في دارفور.

وربما لهذا السبب أجد الترحيب والرغبة في التعاون معي من معظم السكان على مختلف المستويات: تجّار، موظفون، نازحون، مسؤولون حكوميون، أكاديميون وطلاب الجامعات.

مع مرور السنوات أصبح أبكر أحد أكبر مصادري للأخبار والمعلومات، وحتى عندما كانت القبضة الأمنية مشددة في عهد البشير كان يخاطر بمدّي بالمعلومات.

عندما اندلعت الحرب الأخيرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، ومع تدهور الأوضاع بشدة، نصحته مترجيًا بأن يخرج من المدينة حفاظًا على حياته وحياة أولاده. لكنه رفض بشدة، وقال لي عبارته الشهيرة: "الفاشر مدينتي، وُلدت فيها، ولن أتركها لأحد وسأموت فيها".

وانقطعت أخباره عني مع انقطاع الاتصالات، ولكني علمت من أصدقاء مشتركين مؤخرًا أنه توفي بعد قصف تعرّض له منزله قبل أيام من سقوط مدينته على يد قوات الدعم السريع.

"ما حدث لنا لم يحدث لأحد في العالم" من الشخصيات التي عرفتها وتعمّقت في الصداقة معها سائق عربة الأجرة فرح، الذي يلقّب بـ"الإمبراطور" لحبه لأحد الفنانين الشباب المعروف بذات اللقب.

التقيته للمرة الأولى في مطار المدينة عام 2007، وطلبتُ منه أن يقلّنا إلى الفندق، وعندما سألته عن الأجرة رفض أن يحدد المبلغ والمساومة وقال: "على الله".

وفي الطريق حدثني عن المدينة وعن مخيمات النزوح، وكانت لديه معلومات

كثيرة عنها، فاقترحت عليه أن يكون معنا طوال أيام الرحلة ودليلنا في الفاشر فوافق.

وأصبح وجوده معنا.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من بي بي سي عربي

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من بي بي سي عربي

منذ ساعة
منذ 6 ساعات
منذ 20 دقيقة
منذ ساعة
منذ 9 ساعات
منذ 3 ساعات
سكاي نيوز عربية منذ 3 ساعات
سي ان ان بالعربية منذ 9 ساعات
سكاي نيوز عربية منذ ساعتين
قناة روسيا اليوم منذ 11 ساعة
سي ان ان بالعربية منذ 9 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 11 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 8 ساعات
قناة يورونيوز منذ 4 ساعات