تسعى أبوظبي خلال السنوات الأخيرة إلى ترسيخ مكانتها كمركز مالي دولي قادر على استقطاب مؤسسات الاستثمار العالمية في ظل بيئة اقتصادية مستقرة ورؤية واضحة للنمو طويل الأجل، وفي هذا الإطار أعلنت شركة DWS، إحدى كبرى شركات إدارة الأصول في أوروبا والمشرفة على أكثر من مليار يورو من الأصول، عن توسّع رسمي في الإمارة. وفي مقابلة خاصة، قدّم الرئيس التنفيذي للشركة، ستيفان هوبس، رؤية شاملة حول أسباب اختيار أبوظبي كمحطة استراتيجية، والدور الذي يلعبه سوق أبوظبي العالمي، وكيف تعيد المنطقة صياغة مسار حركة رؤوس الأموال عالميًا.
بيئة تنظيمية واضحة ودعم تشغيلي يسهل دخول السوق يرى هوبس أن أحد أهم العوامل التي دفعت الشركة لاختيار سوق أبوظبي العالمي هو البنية التنظيمية التي وصفها بأنها منسجمة مع الممارسات العالمية. فالسوق استقطب منظّمين ذوي خلفيات مهنية طويلة من مراكز مالية كبرى، الأمر الذي جعل التعامل مع الإطار الرقابي مألوفًا بالنسبة لشركة تعمل في أسواق متعددة. لكن الجانب التنظيمي لم يكن وحده العامل الفاصل؛ إذ يشير هوبس إلى أن الدعم الذي تلقته الشركة شمل أيضًا الجوانب التشغيلية، من توفير مقرات عمل إلى تسهيل إجراءات التأسيس، ما جعل إطلاق العمليات في أبوظبي أسرع وأكثر وضوحًا مقارنة بوجهات أخرى. ويضيف أن اعتماد السوق على القانون العام البريطاني أسهم في تعزيز بيئة قانونية مفهومة لمعظم المستثمرين العالميين، وهذا بدوره سهّل على DWS الانتقال والتوسع دون الحاجة إلى إعادة بناء منظومة قانونية خاصة بالسوق المحلي.
الانضمام إلى منظومة مالية عالمية متنوّعة بعيدًا عن التنظيم، يوضح هوبس أن أبوظبي أصبحت اليوم نقطة تلاقي بين مجموعات متنوعة من المستثمرين وصنّاع القرار من مختلف أنحاء العالم. ويصف الإمارة بأنها من الأماكن القليلة التي ما زالت قادرة على جمع خبراء من الولايات المتحدة وأوروبا والصين والشرق الأوسط وأفريقيا في مساحة واحدة، مما يسمح بتبادل رؤى استثمارية مباشرة لا يمكن محاكاتها من بعيد. ومن وجهة نظره، فإن هذه المنظومة المتداخلة تمنح الشركات العالمية قيمة معرفية واستراتيجية يصعب تكرارها في أي مركز مالي آخر، وهو ما أدى إلى رغبة DWS في أن تكون جزءًا من هذه البيئة، ليس فقط لإدارة العملاء ولكن لفهم الاتجاهات التي تشكّل مستقبل الاستثمار.
حركة رؤوس الأموال بين الخليج وأوروبا يؤكد هوبس أن هناك تحولًا ملحوظًا في مسار رؤوس الأموال بين الخليج وأوروبا، وهو تحول شهد تسارعًا خلال العامين الماضيين. فعلى مستوى المستثمرين الخليجيين، يزداد الاهتمام بالأصول الأوروبية نظرًا لأدائها القوي مؤخرًا ولرغبتهم في تنويع محافظهم بعيدًا عن الأسواق التقليدية. وتستفيد DWS من هذا التوجه كونها واحدة من أبرز مديري الأصول في القارة، إذ تعمل على تلبية الطلب على الاستثمار في السندات الأوروبية والأسهم والبنية التحتية والعقارات. وفي الاتجاه المعاكس، يوضح هوبس أن المستثمرين الأوروبيين ينظرون اليوم إلى الخليج بزخم أكبر، ولكنهم يعترفون بأنهم لم يمضوا وقتًا كافيًا لفهم التحولات الاقتصادية في المنطقة. ومع ذلك، فإن التطورات التي شهدتها أسواق البنية التحتية والعقار، إضافة إلى صعود شركات خاصة خليجية، بدأت تلفت الانتباه الأوروبي، ما يفتح الباب لزيادة تدفقات رأس المال نحو المنطقة. تطبيقات الذكاء الاصطناعي.. من التكنولوجيا إلى الإنتاجية وعند الحديث عن التكنولوجيا، يلفت هوبس إلى أن ما يميز الإمارات في مجال الذكاء الاصطناعي هو التركيز على التطبيق العملي وليس الجانب التكنولوجي فقط؛ ففي حين تركز بعض الدول على البرمجيات والبنية الأساسية للذكاء الاصطناعي، تتجه الإمارات نحو توظيف هذه التقنيات في قطاعات صناعية وخدمية متعددة، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد وإدارة سلاسل التوريد. ويرى هوبس أن هذا النهج يمنح الدولة أفضلية تنافسية، لأنه يربط التكنولوجيا مباشرة بقيمة اقتصادية ويجعلها جزءًا من منظومة أعمال قائمة بالفعل، وليس مجرد رؤية مستقبلية.
سرعة التنفيذ.. عامل استثماري جذّاب من العناصر التي يعتبرها هوبس أقل تقديرًا لكنها بالغة الأهمية هي سرعة التنفيذ في دول الخليج، فهو يرى أن العديد من الاقتصادات تمتلك استراتيجيات طموحة، لكن التنفيذ على الأرض غالبًا ما يتعثر أو يستغرق سنوات طويلة، على العكس من ذلك، يشير إلى أن مشاريع ضخمة في الإمارات والسعودية تنفذ على نطاق واسع وفي إطار زمني قصير نسبيًا، وهو ما يترك أثرًا مباشرًا على تقييم المستثمرين لفرص النمو ويجعل المنطقة بيئة مواتية لتسريع العوائد. الصناديق السيادية الخليجية.. رؤى واضحة وتوجه استراتيجي طويل المدى يتوقف هوبس مطولًا عند دور الصناديق السيادية في المنطقة، معتبرًا إياها من أكثر المستثمرين نضجًا على مستوى العالم؛ فهي لا تتعامل مع مديري الأصول باعتبارهم مجرد موفرين للنصائح، بل تدخل في شراكات متعمقة تستند إلى رؤى واضحة حول توزيع الأصول والقطاعات التي تريد دعمها والموقع الذي تختاره داخل هيكل رأس المال. ويقول إن وجود الشركة في أبوظبي يتيح لها فهمًا أدق لأولويات هذه الصناديق، لكون جزء كبير من قراراتها الاستثمارية يُبنى على أفق زمني يمتد لخمس أو عشر سنوات ويستلزم حوارًا مباشرًا ومتواصلًا.
الخليج كمركز لرأس المال العالمي الجديد يشير هوبس إلى أن الشرق الأوسط -إلى جانب اليابان وبعض دول آسيا- أصبح أحد أهم مصادر تكوين رأس المال الجديد حول العالم؛ فالمنطقة تشهد مستويات ادخار مرتفعة وتدفقات استثمارية مستمرة، ما يجعلها لاعبًا مؤثرًا في تشكيل الطلب العالمي على الأصول وفي تمويل المشاريع الضخمة. ومن هذا المنطلق، يعتبر هوبس أن دور المنطقة لم يعد هامشيًا، بل أصبح مركزيًا في أسواق متعددة، سواء في الدخل الثابت أو الأسهم أو مشروعات البنية التحتية.
العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة.. ومتغيرات أسعار الفائدة في تحليله لحركة الاستثمار بين أوروبا والولايات المتحدة، يميز هوبس بين سلوك المستثمر الفرد وسلوك المؤسسات الكبرى. فالأفراد في الولايات المتحدة يركزون إلى حد كبير على الأسهم المحلية، بينما بدأ الأفراد الأوروبيون يعيدون توجيه جزء أكبر من رؤوس أموالهم إلى داخل القارة بعد سنوات طويلة من الاستثمار المكثف في الأسهم الأميركية، أما المؤسسات الآسيوية والخليجية فهي تنظر بصورة استراتيجية طويلة الأجل، وتتعامل مع أوروبا كوجهة ذات إمكانات لم تتحقق بالكامل بعد. وحول أسعار الفائدة، يرى هوبس أن الأعوام الأخيرة تأثرت كثيرًا بالاعتبارات الجيوسياسية، لكنه يعتقد أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر ارتباطًا بالظروف المحلية داخل الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك احتمال أن تتخذ بعض الأسواق قرارات مختلفة بشأن مسار الفائدة بناءً على بياناتها الداخلية وليس وفق اتجاه عالمي واحد.
هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية
