تتعمّق التحديات التي يواجهها النظام التعليمي الرسمي في لبنان مع استمرار الانهيار المالي الذي بدأ عام 2019 وتفاقم في السنوات اللاحقة، ما كشف عن اختلالات تراكمت عبر عقود في إدارة القطاع وتمويله وطريقة توزيع الموارد العامة، وانعكس ذلك على مستوى فعاليته وقدرته على الاستمرار.
ويأتي هذا التقييم في ضوء تحليل موسّع نشره «المركز التنموي الدولي» (ODI Global) ضمن برنامج «البحث التربوي في النزاعات والأزمات الممتدة» (ERICC)، والذي يشير إلى أن التراجع المتواصل في قدرات الدولة على الإنفاق حدّ من قدرة التعليم الرسمي على أداء دوره التقليدي كأحد عناصر الاستقرار الاجتماعي، وجعله أكثر تأثراً بتداعيات الانهيار الاقتصادي.
رائد خوري: لبنان يحتاج إلى إصلاح اقتصادي يتوازى مع الحل السياسي
ضغوط مالية تهدد التعليم الرسمي
تسببت أزمة العملة اللبنانية، وخاصة في عام 2023، في تدهور غير مسبوق في القدرة الشرائية للمعلمين، إذ تجاوزت نفقات معيشتهم الأساسية رواتبهم الحقيقية بنسبة فاقت الـ500% وفق تقديرات منشورة في تقارير «البنك الدولي» و«منظمة العمل الدولية»، ما أدى إلى خروج أعداد كبيرة من الهيئة التعليمية من القطاع الرسمي أو بحثها عن مصادر دخل بديلة.
وفي الفترة نفسها، تراجع عدد أيام التعليم الحضوري بين 2019 و2023 إلى أقل من نصف المعدل السنوي المعتاد، الأمر الذي ترافق مع تدنٍ واضح في نتائج التعلّم التي كانت أصلاً من الأدنى في الشرق الأوسط، بحسب تقييمات «اليونيسكو» و«المركز التربوي للبحوث والإنماء» (CRDP).
ويعكس هذا الواقع هشاشة البنية التشغيلية للقطاع الذي يعاني نقصاً مستمراً في التمويل وضعفاً في أنظمة البيانات وافتقاراً إلى الدعم المتخصص، ما جعله غير قادر على استيعاب تزايد أعداد الطلاب، بمن فيهم مئات آلاف الأطفال اللاجئين الذين تعتمد موازنات تعليمهم بنسبة تتراوح بين 70% و80% على التمويل الدولي بحسب تقديرات «خطة لبنان للاستجابة للأزمة» (LCRP).
التدخل الدولي تعقيدات التنسيق
تتداخل عوامل الأزمة الداخلية في لبنان مع تعقيدات المشهد الدولي الذي يضم عشرات الجهات المانحة والمنظمات المنفّذة. وفي غياب إطار وطني واضح ينسّق أولويات التدخل، تتشتت الجهود بين مبادرات متوازية غالباً ما تتقاطع أو تتكرر دون تحقيق قيمة مضافة.
ويشير تحليل «البحث التربوي في النزاعات والأزمات الممتدة» إلى أن تعدد الجهات المانحة والمنفّذة، في غياب تنسيق اقتصادي واضح، يؤدي إلى انخفاض كفاءة الإنفاق التربوي وإلى تكرار البرامج بدلاً من تكاملها، ما يحدّ من العائد الفعلي على الاستثمار في التعليم. كما يلفت التحليل إلى أنّ بعض التدخلات قد تساهم، من دون قصد، في اتساع فجوات الجودة بين المدارس نتيجة التوزيع غير المتوازن للتمويل.
ويؤكد التقرير أن تحقيق أثر اقتصادي مستدام للدعم الدولي يتطلّب مراجعة نماذج إدارة التمويل وآليات الحوكمة المالية في القطاع، بما يضمن توجيه الموارد وفق الأولويات التربوية الوطنية، ورفع مستوى الشفافية، وتحسين القدرة على قياس مردود الاستثمارات التعليمية.
صورة لوسط بيروت، لبنان يوم 7 أبريل 2025
كلفة التراجع التعليمي على رأس المال البشري
يمثّل تدهور التعليم تهديداً مباشراً لرأس المال البشري في لبنان. فوفق أحدث الاتجاهات التي وثّقها «البنك الدولي» في سلسلة مشاريع «رأس المال البشري» (Human Capital Project)، تشير الأدلة العالمية إلى أن خسارة سنة تعليم فعّالة تخفض الدخل المستقبلي للفرد بنسبة تتراوح بين 8% و10%.
وفي الحالة اللبنانية، تكشف المقارنات التراكمية بين 2019 و2025 عن فقدان أكثر من سنتين ونصف من التعلّم الفعّال لدى شريحة واسعة من الطلاب. ويُرجّح هذا التراجع أن ينعكس خسارة تقدر بمليارات الدولارات في الناتج المحلي الإجمالي المستقبلي، ما يشكّل عبئاً إضافياً على اقتصاد يعاني أصلاً انكماشاً حاداً وتراجعاً في الإنتاجية.
ويؤكد «تقرير اليونسكو العالمي لرصد التعليم 2025» (UNESCO Global Education Monitoring 2025) أن هذه الخسارة التعليمية قد تكون من أكبر العوامل التي ستعيق تعافي لبنان الاقتصادي على المدى الطويل.
تآكل موازنة التعليم وارتفاع كلفة الطالب
تراجع الإنفاق العام على التعليم إلى مستوى يقلّ عن 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وفق الاتجاهات الواردة في مشاورات «صندوق النقد الدولي» لعام 2025، وهو من أدنى المعدلات عالمياً. ويعني ذلك أن الإنفاق الفعلي على الطالب في المدارس الرسمية يقل عن 150 دولاراً سنوياً بعد احتساب أثر التضخم والانهيار النقدي، مقارنة بمتوسط إقليمي يصل إلى 700 1500 دولار للطالب بحسب بيانات «البنك الدولي».
هذا الانكماش الحاد في الإنفاق جعل المدارس الرسمية تعمل بطاقة تشغيلية دنيا، فيما تزايد الاعتماد على دعم المانحين لتغطية الاحتياجات الأساسية كالنقل والكتب ورواتب المتعاقدين.
شربل نحاس: لبنان يحتاج إلى نظام مصرفي جديد لدعم النمو الاقتصادي
الدولار واتساع الفجوة الطبقية في التعليم
أسهم التسعير بالدولار في القطاع الخاص في إعادة رسم خريطة التعليم في لبنان خلال الأعوام الأخيرة. فقد انتقلت عشرات المدارس الخاصة إلى اعتماد الأقساط بالدولار، ما أوجد فجوة تعليمية واضحة بين من يستطيع الدفع بالعملة الأجنبية ومن يعتمد على الليرة.
وتشير بيانات عامي 2023 و2024 الصادرة عن «المركز التربوي للبحوث والإنماء» و«اليونيسف» (UNICEF) إلى انتقال ما بين 35% و40% من طلاب المدارس الخاصة سابقاً نحو النظام الرسمي، وهو ما زاد الضغط على المدارس الرسمية التي تعاني أصلاً من اكتظاظ وعدم توازن في التوزيع الجغرافي والبشري.
التعليم كجزء من خطة التعافي
يدعو «صندوق النقد الدولي» إلى إدراج إصلاح التعليم ضمن خطة التعافي الوطني، مؤكداً في تقاريره المقارنة لعام 2025 أن الدول الخارجة من أزمات حادة والتي أعادت هيكلة قطاعها التعليمي، مثل رواندا وجورجيا، حققت معدلات نمو إضافية تتراوح بين 1.5% و2% سنوياً نتيجة الاستثمار في رأس المال البشري.
ويرتبط ذلك بحزمة إصلاحات تشمل إعادة هيكلة الوظيفة العامة، وتحسين كفاءة الإنفاق، ومكافحة شبكات الفساد التي تستنزف الموارد المالية في القطاعات الخدمية، وعلى رأسها التعليم.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

