السياسات الفلاحية الحكومية تستنزف مياه المغرب

شهدت السياسات الفلاحية بالمغرب خلال العقدين الماضيين تحولات كبرى، قُدمت رسمياً كقصص نجاح في جذب الاستثمارات وتوسيع الصادرات وتحسين الإنتاج. غير أن تقريراً حديثاً صادر عن المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة كشف أن هذه النجاحات جاءت بثمن مرتفع، تمثل أساساً في استنزاف غير مسبوق للموارد المائية، وتراجع حاد في مؤشرات الأمن الغذائي، وتعميق الفوارق بين الفلاحين الكبار والصغار، إضافة إلى هشاشة بنيوية تهدد استدامة النموذج الفلاحي ككل.

ويؤكد التقرير أن مخطط المغرب الأخضر ، رغم دوره في توسيع مساحات السقي وتحسين جاذبية القطاع للاستثمار، عرف اختلالات كبيرة في تدبير الدعم الخاص بالسقي الموضعي، إذ تحولت الإعانات إلى أعباء مالية دون أثر فعلي على مستوى ترشيد المياه أو تحسين الإنتاج لدى الفلاحين الصغار. كما ساهم التوسع السريع للمساحات المسقية، خاصة في المناطق الجافة، في الضغط المكثف على الفرشات الباطنية، ما أدى إلى استنزاف مستمر لمخزون المياه الجوفية في مناطق مثل سوس ماسة، والحوز، وزاكورة.

ويبرز التقرير أن التركيز على الزراعات الموجهة للتصدير مثل الأفوكادو والبطيخ الأحمر خلق نموذجاً فلاحياً يستهلك كميات ضخمة من المياه، في بلد يعيش على وقع سنوات متتالية من الجفاف وتغيرات مناخية حادة. فزراعة الأفوكادو وحدها تتطلب حوالي 8000 متر مكعب من الماء للهكتار سنوياً، بينما يحتاج إنتاج كيلوغرام واحد إلى نحو 1000 لتر من الماء. أما البطيخ الأحمر، فتتراوح حاجته بين 3800 و4300 متر مكعب للهكتار، رغم انتشار زراعته في مناطق تعرف إجهاداً مائياً مزمنًا.

ووفق التقرير، يكشف هذا التناقض الصارخ أن المغرب يُصدر فعلياً مياهاً افتراضية نحو الخارج في وقت يعيش فيه أزمة عطش داخلية، حيث يجد سكان عدة مناطق قروية صعوبة متزايدة في الحصول على مياه الشرب، ويواجهون نتائج مباشرة لهذا الاستنزاف من خلال تعميق الفقر والهشاشة، وحتى الهجرة القسرية نحو المدن بحثاً عن بدائل معيشية.

ويشير التقرير إلى أن الأزمة المائية لم تكن وحدها نتيجة مباشرة للمخطط الأخضر، بل رافقتها أيضاً هشاشة غذائية متصاعدة بسبب إهمال الزراعات الأساسية المرتبطة بالأمن الغذائي، وفي مقدمتها الحبوب والقطاني. فقد اختار المغرب، ضمن نموذج الفلاحة التصديرية، التركيز على المنتجات ذات القيمة التجارية العالية لجلب العملة الصعبة، مقابل تراجع كبير في الاستثمار في الزراعات المعيشية. وهذا ما جعل البلاد تعتمد بشكل كبير على استيراد الحبوب، إذ يتجاوز حجم الواردات في سنوات كثيرة حجم الإنتاج الوطني بشكل لافت، مما يعرض المغرب لتقلبات الأسواق الدولية ويرفع مخاطر عدم الاستقرار الغذائي.

ويرى التقرير أن الاختلالات لا تقف عند حدود الأثر البيئي والغذائي، بل تمتد إلى العدالة الاجتماعية والمجالية، حيث استفادت الفلاحة العصرية، الموجهة أساساً للمستثمرين الكبار، من أغلب الدعم العمومي، بينما تمت تهميش الفلاحة التضامنية، التي يعتمد عليها ملايين المغاربة في المناطق القروية البورية. ونتيجة لذلك، اتسعت الهوة بين فلاحين كبار يملكون القدرة على الاستثمار والتصدير، وبين صغار الفلاحين الذين يواجهون الجفاف، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وغياب الدعم الحقيقي، وتراجع القدرة على الاستمرار في أرضهم.

أما مخطط الجيل الأخضر 2020 2030 ، الذي جاء كامتداد للمخطط السابق، فيرى التقرير أنه لم يُحدث القطيعة المنتظرة مع اختلالات الماضي. فتنفيذ مشاريعه يسير ببطء، ولم يتمكن، وفق المؤشرات الأولية، من إعادة التوازن بين الفلاحة العصرية والفلاحة التضامنية، إذ لا يزال كبار المنتجين هم المستفيد الأول من الدعم والفرص. كما بقي التحدي المائي قائماً بل أشد حدّة، مما يجعل استدامة النموذج مهددة، ويعزز التبعية الغذائية التي كان يفترض أن تكافحها السياسات الجديدة.

ويبرز التقرير أن التوسع في الزراعات الموجهة للتصدير لم يراعِ واقع الندرة المائية، ولا هشاشة الفرشات الجوفية، ولا قدرة المناطق القروية على تحمل الضغط البيئي. فقد أدى الاستنزاف المائي الذي تكرس منذ عام 2008 إلى جعل بعض المناطق غير قادرة على ضمان مياه الشرب للسكان، فضلاً عن تأثيره على تربية المواشي، والمراعي، والموارد المحلية التي تعتمد عليها الأسر القروية.

وفي قراءة نقدية للسياسات الفلاحية، يشدد التقرير على أن التحدي الوجودي اليوم هو الأمن المائي، الذي يجب أن يكون في مقدمة الأولويات، باعتباره يحدد مستقبل الفلاحة، والأمن الغذائي، والاستقرار الاجتماعي. فبدون سيادة مائية لن تتحقق سيادة غذائية، وبدون إعادة توجيه السياسات لن يتمكن المغرب من مواجهة التغير المناخي أو ضمان استدامة إنتاجه.

ويقترح التقرير جملة من التوصيات العملية، تشمل ضرورة تبني مقاربة جديدة تقوم على إعادة توجيه الدعم نحو الزراعات المعيشية مثل الحبوب والقطاني، التي تشكل أساس الأمن الغذائي الوطني. كما يدعو إلى تقليص الإعانات الموجهة للسقي والتشجير التي تستفيد منها الزراعات المفرطة في استهلاك الماء، مع فرض شروط صارمة تربط الدعم بترشيد استعمال المياه وتقنيات الري الحديثة. ويوصي كذلك بضرورة مراجعة دراسات الجدوى للزراعات الموجهة للتصدير، وتشجيع التعاونيات والتنمية المحلية، وتعزيز التنسيق بين مختلف القطاعات الحكومية لضمان حكامة فعالة في تدبير الماء والفلاحة.

ويخلص التقرير إلى أن مستقبل الفلاحة المغربية لن يتحقق بالاعتماد على الصادرات وحدها، ولا بالتوسع غير المحسوب في الزراعات المائية، بل بتحقيق توازن بين الأمن المائي والسيادة الغذائية، وبالاستثمار في الإنسان والمناطق الهشة، واعتماد رؤية تجعل الماء هو معيار النجاح الأول لأي سياسة فلاحية.


هذا المحتوى مقدم من أشطاري 24

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من أشطاري 24

منذ 7 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 7 ساعات
منذ 10 ساعات
هسبريس منذ 17 ساعة
هسبريس منذ 19 ساعة
هسبريس منذ 8 ساعات
أشطاري 24 منذ 13 ساعة
هسبريس منذ 15 ساعة
هسبريس منذ 16 ساعة
موقع بالواضح منذ 11 ساعة
هسبريس منذ 15 ساعة