وثيقة الأمن القومي الأمريكي.. المرتكزات العقائدية للإمبراطوريات الجديدة

كشفت وثيقة الأمن القومي الأمريكي يوم 5 دجنبر 2025 “خارطة طريق” جديدة للتموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية؛ كثفت توجهاتها العسكرية، الاقتصادية، الدبلوماسية والثقافية التي سطرتها من أجل تنفيذها في العالم بهدف خلق ما تسميه “عصرًا ذهبيًا جديدًا” لأمريكا. فهي تعلن أنها تريد، أولا وقبل كل شيء، “بقاء الولايات المتحدة وحماية أمنها باعتبارها جمهورية مستقلة ذات سيادة، حيث تضمن الحكومة الحقوق الطبيعية الممنوحة من طرف الرّب لمواطنيه وتعطي الأولوية لرفاهيتهم ومصالحهم…مع الحرص على تقوية السلامة الثقافية لمجتمعهم”.

تبرز هذه الوثيقة توجُهًا استراتيجيا جديدا لأمريكا في العالم، واستعدادا عمليا لفرضه على العلاقات بين الدول، من منطلق تصنيف دقيق للحلفاء والخصوم ومصادر العداء، وما يتطلبه ذلك من جاهزية عسكرية واقتصادية، ومن تعبئة دبلوماسية لتحقيق ما تدعو إليه “ورقة الطريق” من قطائع، وتحولات، وتحالفات، وسياسات تستجيب للتوجهات “الإيديولوجية” التي يهتدي بها صناع القرار في البيت الأبيض.

وإذا كانت الوثيقة تدعو إلى إعادة ترتيب المواقع الاستراتيجية للعالم من منطلق أن “السلام يتم بواسطة القوة”، حتى وإن ادعت سلوك “واقعية مرنة”، فإنها تطالب بالحد من “تدخلات المنظمات العابرة للأوطان والتي تقوض سيادة الدول”، لأن “الوحدة السياسية الأساسية للعالم هي “الدولة-الأمة” وعليها أن تبقى”. لذلك تصر على استبعاد المرجعيات الكبرى التي تأسس عليها الغرب الأوروبي الحديث، وفي طليعتها ما يدخل ضمن قيم “حقوق الإنسان”، وتدعو إلى “مساعدة حلفائنا والمحافظة على حرية أوروبا وأمنها”، ولكن “مع استعادة ثقة الحضارة الأوروبية والهوية الغربية في ذاتها” من خلال “زرع مقاومة المسار الراهن لأوروبا” وتشجيع قوى اليمين التي تلتقي مع التوجهات الإيديولوجية والسياسية الجديدة لأمريكا.

ما يثير الانتباه، وذلك قبل نشر هذه الوثيقة، يتجلى فيما يشبه تقاربًا إيديولوجيًا بين منظري “الأنوار المُظلمة” وأقطاب الرجعية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية وبين كتابات من يُعتبر “عقل” فلاديمير بوتين، وهو “ألكساندر دوغين” Alexandre Douguine؛ مع أننا نجد من يتحفظ على إطلاق هذا الوصف عليه. لقد ألف كتابا في أبريل 2025 بعنوان “ثورة ثرامب، النظام الجديد للقوى العظمى”، يقر فيه أن ثمة قواعد مشتركة بين روسيا بوتين وأمريكا ثرامب. ولعل تصريح دميتري بيسكوف، الناطق الرسمي للكريملين، يوم 8 دجنبر لم يكن مستغربا حين نوه باستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة باعتبارها “تتماشى إلى حد بعيد” مع رؤية موسكو.

وهو أمر ليس جديدا ما دامت العلاقات بين البلدين شهدت في ولاية ثرامب الأولى دفئًا وتعاونًا دفع بالديمقراطيين إلى التنديد به؛ لأنهم اعتبروا أن بوتين تدخل في الانتخابات الأمريكية لصالح حملة ثرامب وساعد على انتصاره. لذلك وجدنا من يرى أن غزو روسيا لأوكرانيا له أسباب عميقة، لم تبدأ بالحرب في منطقة “الدومباس” المستمرة منذ 2014، الروسية اللغة والثقافة، أو ما تعرض له سكانها من تنكيل وبطش من طرف مليشيات مدعومة من أمريكا، أو ضمّ جزيرة القرم إلى روسيا؛ أو أن الأمر يعود إلى عدائية الرئيس “جو بايدن” الذي أصر على استمرار توسُّع الحلف الأطلسي وإعلان إرادته إدماج أوكرانيا فيه، وتغاضيه المطلق عن هواجس روسيا الأمنية؛ بل إن الأمر يتعلق بعوامل عديدة مجتمعة دفعت روسيا إلى غزو أوكرانيا في فبراير 2022. ويلاحظ المراقبون أن روسيا لم تتوقف عن تنبيه أعضاء الحلف الأطلسي، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، إلى الحد من سياسات ضمّ الدول المجاورة لروسيا وعدم تعريض أمنها القومي إلى الخطر. ولربما بسبب المواجهة العسكرية الجارية الذي لا يتكهن أحد بمآلها، لم يتوقف ثرامب في حملته الانتخابية عن الوعد بأنه بمجرد توليه السلطة سيعمل على إيقاف الحرب في أسرع وقت ممكن وصرح، أكثر من مرة، بأنه لو كان في الحكم لما نشبت هذه المواجهة العسكرية مع روسيا. وهو ما تؤكده وثيقة “الأمن القومي الأمريكي” مجددا.

تقارب عقائدي بين روسيا وأمريكا الجديدة

إذا كان ألكساندر دوغين يؤمن بتقارب عقائدي بين اليمين الأمريكي الجديد والإيديولوجية الأوراسية ذات التطلعات الإمبراطورية، فإن الأمريكي ستيف بانون، باعتباره أحد وكلاء اليمين العالمي المتطرف، يرى أن ثمة تحالفا “يهوديا مسيحيا” يجمع أمريكا بروسيا، وحتى وإن كانت أوروبا جزء من هذا الانتماء الحضاري والعقائدي العام فإن كليهما يعتبران أن على أوروبا أن تخضع لإرادتي قوة أمريكا وروسيا لأنها فقدت، بوضوح، مكانتها الاستراتيجية على الرغم من “اتحاد” دولها الذي يتعين العمل التدريجي على إضعافه، بله إنهائه. ولعل نشر وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” يوم الجمعة 5 دجنبر 2025 إعلان تاريخي عن الطموح الجديد للإدارة الأمريكية إلى إنجاز “قطيعة تاريخية” مع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإلحاق أوروبا إلى التحالف الدولي الجديد الذي يتطلع له ثرامب ومنظروه مع روسيا.

يرفض دوغين ادعاءات أوروبا النظرية والسياسية كافة ويستبعد، إن لم نقل يستهجن القول ب”كونية” النموذج الغربي، ويُعبِّر عن مقاومة واضحة لسياسات “التحديث القسْري” من الخارج. إنه لا يرى فيها سوى مظهر من مظاهر الاستعباد، والاستعمار، ومحو ثقافة الآخر. ويؤمن بأن التشبث بالتراث القديم لروسيا، والديانات التقليدية أفضل وسيلة لمحاصرة المد التغريبي الاستلابي الغربي؛ بل وزاوَج في فكره بين نزعة قومية روسية، يعتبرها البعض ذات مضامين فاشية، وبين تطلع إمبراطوري عنوانه “أوراسيا جديدة” تمتد إلى حدود البرتغال على الصعيد القاري غربا وتتجه من موسكو إلى بيكين مرورا بطهران شرقا. من هذا المنطلق طالب دوغين دائما بضم “القرم”، وذلك ما حصل سنة 2014، ولم يتوقف عن معارضته لاستقلال أوكرانيا وألح على إلحاقها بروسيا، لأن استقلالها شكَّل وما يزال يشكل خطرا على المشروع الأوراسي، فضلا عن إلحاحه على التحكم المطلق في البحر الأسود بوصفه مجالا بحريا حيويا لهذا المشروع.

لا يخفي دوغين انتماءه العقائدي، ويجهر باعترافه بالسلطة الروحية للبطريركية في موسكو، كما يقوم بذلك بوتين تماما. ويُحركه حلم إمبراطوري لا يخفيه، ويدعو إلى محاصرة فكر الحداثة؛ بل لا يتردد في إعلان الحرب على ادعاءاتها “الحضارية”. ففي كتابه “النظرية السياسية الرابعة؛ روسيا والأفكار السياسية في القرن الواحد والعشرين” (ترجم إلى الفرنسية سنة 2012)، يُبرز دوغين تمظهرات الشرخ الحضاري والإيديولوجي بين روسيا والغرب. يتناول فشل الشيوعية والفاشية في تجربتيهما التاريخية، وأما الليبرالية التي تدعو إلى العقلانية، والديمقراطية، والتقدم، فإنها عرَّضَت الإنسان لأبشع أنواع الاستعباد والاستغلال والاستلاب. فلا هي تمثل “نهاية التاريخ”، كما ادعى ذلك فرانسيس فوكوياما الذي انفضحت تخيُّلاته، ولا تعبر عن تراجع السرديات الكبرى. لذلك يتعين محاربتها بكل الوسائل المتاحة أو التي يتعين خلقها، من أجل بناء دولة قومية قوية تستند إلى ما يسميه ب”مُحافظة فاعلة” تصفي حسابها مع الادعاءات الليبرالية كافة، ومع حداثتها التي تُنتج من السوء للإنسان أكثر مما توفر له شروط إسعاده. وتشكل هذه.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من هسبريس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من هسبريس

منذ 26 دقيقة
منذ 58 دقيقة
منذ ساعة
منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 13 ساعة
هسبريس منذ 10 ساعات
هسبريس منذ 21 ساعة
هسبريس منذ 5 ساعات
Le12.ma منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 20 ساعة
آش نيوز منذ ساعة
هسبريس منذ 17 ساعة