فتحتُ صفحة “الليْفَات” كما يفتح المرء باباً لا يريد أن يرى ما خلفه… ومع ذلك يفتحه. وما إن انسكبت الصور والكلمات والوجوه حتى شعرتُ بشيء يشبه القرف، قرفٌ ليس من الناس، وإنما من الحالة التي وصلنا إليها: حالة ضجيج يظن نفسه تواصلاً، واستعراض يظن نفسه حياة، وثرثرة تُسمّى تعبيراً عن الذات بينما لا تعبر عن شيء سوى الفراغ وهو يتنكر في ألوان زاهية.
تساءلتُ باستغراب: كيف صرنا نحتفي بما لا يُحتفى به، نلتقط ما لا قيمة له، ونرفع من شأن ما كان ينبغي أن يظلّ في العتمة؟ كأن العالم انقلب فجأة وصار السطح هو العمق، واللاشيء هو الحدث، والضوضاء هي الرسالة. وربما ما يصدم أكثر هو أن كل هذا يحدث بقدر كبير من العادية، كأن الناس تعوّدوا على أن تُعرض حياتهم على الملأ مثل بضاعة رخيصة على عتبة متجر شعبي. لحظات كان يمكن أن تبقى ملكاً لروح الإنسان صارت تُفرش على الشاشات ليُداس عليها بالإعجاب أو بالسخرية… لا فرق. ورغم القرف، شعرتُ بدهشة صغيرة من قدرتنا العجيبة على أن نُسمي الفوضى حرية، والتشتت تواصلاً، والابتذال واقعاً يجب التعايش معه. شيء مقرف، حقّا، لأن ما أراه لا يفضح الآخرين، بقدر ما يفضحنا جميعاً: يفضح حاجتنا الغريبة إلى أن نتلصّص على ما لا يستحق النظر، وأن نهدر ما تبقّى من وعينا في متابعة ما لا يضيف شيئاً سوى طبقة جديدة من الفراغ. ولم أدرِ هل المشكلة في المنصّة، أم فينا نحن الذين صرنا نُربّي التفاهة كما تُربّى النباتات المنزلية، نسقيها بالمتابعة، ونُعرّضها لشمس الاهتمام حتى تنمو أكثر مما ينبغي.
منصّات تأكل أصحابها
أغلقتُ الصفحة لثوانٍ، ثم عدتُ وفتحتها من جديد، كما يفعل المدمن الذي يلعن سجائره وهو يشعل واحدة أخرى. قلت لنفسي إنني فقط أراقب، فقط أدرس “الظاهرة” بعقل بارد، كما لو كنتُ باحثاً في “سوسيولوجيا العبث الرقمي”. لكن الحقيقة أن جزءاً في داخلي كان يريد أن يرى الانهيار وهو يحدث ببطء: يرى كيف تتحول المشاعر إلى كلام قابل لإعادة التدوير، وكيف يُقاس معنى الإنسان بعدّاد المشاهدات والتعليقات والقلوب الصغيرة التي لا تشبه القلب في شيء. في “لايف” فتاة تبكي أمام الكاميرا لأنها افترقت عن حبيبها. تبكي، ثم تتوقف فجأة لتقرأ التعليقات، تضحك على نكتة، تشكر متابعاً، ثم تعود لتستدعي دموعها من جديد. الدراما هنا ليست ألماً خالصاً، وإنما “بروجيكت” صغير لإدارة الانتباه. الحزن صار “استراتيجية محتوى”، والدمعة صارت جزءاً من “الخطة التحريرية” للأسبوع. لم أعد أعرف: هل هي فعلاً متألمة، أم أن الألم نفسه تم تحويله إلى منتَج قابل للعرض والتحليل وتحسين الأداء؟
ثم شابٌّ يحكي قصته الملهمة: بدأ من الصفر، كان فقيراً، نام في الشارع، والآن “بفضل الله ثم دعمكم” صار يملك ملابس باسمه. يحكي القصة للمرة الألف، بنفس الانفعالات، بنفس الجمل، بنفس الوقفات الدرامية المدروسة. لا شيء عفوي، حتى الفقر القديم صار مجرد “أصل رمزي” يوضع في رأس المال العاطفي للحساب، يستثمره كل ليلة في “لايف” جديد ليضمن عائداً ثابتاً من التفاعل. مررتُ “بلايف” ثالث: مجموعة شباب في مقهى، هاتف في المنتصف، وضحك عالٍ بلا سبب واضح. يسخرون بمارّين في الشارع، يعلّقون على ملابس هذا، ومشية تلك، ويقرأون تعليقات المتابعين الذين يطالبون ب”فضايح أكثر”. هنا لا يوجد حتى مجهود لإخفاء القبح: التنمّر صار “ترفيها”، والإهانة صارت “كوميديا”، والآخرون مجرد خلفية ديكورية لـ«شو» يومي، يستهلك الكرامة مثلما تُستهلك علبة “شيبس” على الطاولة.
في زاوية أخرى من الشاشة، “لايف” لامرأة في منتصف العمر، تتحدث عن طبخة اليوم، عن مشاكلها مع الجيران، عن آلام ظهرها، عن ابنها الذي لا يسمع الكلام. شيء بسيط، ورتيب… لكنه هو أيضاً يتحول إلى عرض. بيتها الذي كان من المفترض أن يكون مساحة خاصة صار استوديو مفتوحاً، غرفة الجلوس تحوّلت إلى مسرح، والشكوى اليومية التي كانت تُقال لصديقة واحدة في الهاتف صارت خطاباً موجهاً لمئات الغرباء. تبخّرت الخصوصية مثل بخار الطبخ الذي يملأ المطبخ، لكن بخار الطبخ له رائحة… أما هذا فلا رائحة له ولا طعم.
استوقفتني لحظة غريبة: “لايف” لطفل لا يتجاوز العشر سنوات، يرقص على موسيقى سريعة، وأبوه في الخلفية يشجّعه ويقرأ تعليقات المتابعين. يطلبون منه حركات معيّنة، يضحكون على عثراته، يعلّقون على ملامحه، على جسده، على براءته التي تُستهلك أمام أعينهم. الطفل لا يدرك أنه تم تحويله إلى “أصل رقمي” في محفظة والده، إلى أداة لاستقطاب المشاهدات والهدايا. سيدرك لاحقاً، ربما، لكنه حينها سيكون قد تعلّم الدرس مبكراً: أن قيمته تُقاس بما يدرّه حضوره على الشاشة من “إيرادات رمزية ومالية”. بين “لايف” وآخر، تمرّ إعلانات صامتة في ذهني: إعلان عن زمن جديد، لا شيء فيه يبقى مجانياً أو بريئاً. الصداقة تُدار عبر خوارزميات، الحب يُصاغ في قوالب جاهزة، وحتى الحزن يجب أن يكون قابلاً للمشاركة، مختصراً، مفهوماً، يمكن استهلاكه بسرعة قبل أن ينتقل المشاهد إلى مأساة أخرى أكثر.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من هسبريس
