أصبح الذكاء الاصطناعي التوليدي محركًا أساسيًا لعدد متزايد من الخدمات الرقمية والبيئات المهنية. فقد بات يُستخدم لتسريع إنجاز المهام، وتقليل التكاليف التشغيلية، وتحسين جودة القرارات، ودعم الموظفين في أعمالهم اليومية.
وبدأ تشكّل الذكاء الاصطناعي التوليدي بصورته الحديثة مع التقدم السريع في تقنيات التعلم العميق خلال النصف الثاني من العقد الماضي. وأسهمت نماذج مثل المشفرات التلقائية المتغيرة (تقنيات التشفير التي تعتمد على تغيير قواعد التشفير تلقائيًا أثناء عملية تحويل النص من شكله الواضح إلى الشكل المشفر) في تمهيد الطريق لقدرة الآلات على توليد صور وأصوات واقعية، قبل أن تتوسع الإمكانات لاحقًا مع ظهور الشبكات التوليدية التنافسية ونماذج الانتشار.
ولكن هذا التقدم السريع لا يخلو من تبعات؛ فبموازاة الفرص الإنتاجية الهائلة، تبرز مخاطر جديدة تشمل أخطاء المعلومات، وانتهاك الخصوصية، والتعرض غير المقصود لحقوق الملكية الفكرية، إضافة إلى تأثيرات اقتصادية واجتماعية واسعة قد تمتد إلى إعادة تشكيل سوق العمل وفقدان وظائف قائمة. ولهذا السبب، تتصاعد الدعوات من حكومات وخبراء، بل ومن بعض قادة شركات التقنية، لوضع أطر تنظيمية واضحة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي.
ما هو الذكاء الاصطناعي التوليدي؟
الذكاء الاصطناعي التوليدي هو فرع متقدم من فروع التعلم الآلي، يعتمد على نماذج شبكات عصبية قادرة على توليد محتوى جديد استجابةً لتعليمات مكتوبة بلغة طبيعية، سواء كانت قصيرة وبسيطة أو طويلة ومعقدة. وتستطيع هذه النماذج إنتاج مخرجات متعددة الوسائط، مثل النصوص والصور والصوت والفيديو، إلا أن التفاعل النصي هو المجال الذي كشف بوضوح عن إمكاناتها الثورية، إذ بات المستخدمون يتعاملون مع هذه النماذج بطريقة قريبة جدًا من الحوار البشري.
وجاء التحول المفصلي عام 2017 مع تقديم بنية "المحولات" (معالج اللغة)، التي غيّرت قواعد تدريب نماذج اللغة، ومكّنتها من التعامل مع السياق بكفاءة غير مسبوقة، وهو ما فتح الباب أمام نماذج ضخمة متعددة الاستخدامات. ثم بعد ذلك الانطلاقة الكبرى مع إطلاق ChatGPT في 30 نوفمبر 2022، وهو روبوت محادثة مبني على نموذج GPT-3.5 من شركة OpenAI. ويشير اختصار GPT إلى المحوّل التوليدي المدرَّب مسبقًا ، وهو توصيف يعكس البنية الأساسية للشبكة العصبية التي يقوم عليها النموذج.
ورغم أن برامج المحادثة ليست جديدة إذ يعود أول نموذج معروف إلى برنامج إليزا الذي طُوِّر في معهد ماساتشوستس للتقنية في ستينيات القرن الماضي فإن الفارق الجوهري يتمثل في أن النماذج القديمة كانت تعتمد على قواعد ثابتة وسيناريوهات معدّة مسبقًا، ما حدّ من قدرتها على فهم السياق. أما نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي الحديثة، فلا تعتمد على قواعد جاهزة، بل تُدرَّب على كميات ضخمة من البيانات الواقعية، وتبني من خلالها نموذجًا داخليًا للعالم تستخدمه لتوليد إجابات جديدة. وحتى الآن، يعترف الخبراء بأن الكيفية الدقيقة التي تتشكل بها هذه القدرات داخل النموذج ما تزال غير مفهومة بالكامل.
الذكاء الاصطناعي التوليدي VS التقليدي
يندرج الذكاء الاصطناعي التوليدي ضمن الإطار العام للذكاء الاصطناعي، لكنه يختلف عنه في الهدف وطريقة الاستخدام. فالأنظمة التقليدية تُطوَّر غالبًا لأداء مهام محددة، مثل تصنيف البيانات أو التنبؤ بالنتائج أو التحكم في الأنظمة الذكية. في المقابل، يتمحور الذكاء الاصطناعي التوليدي حول إنتاج محتوى جديد، وليس مجرد تحسين دقة قرار أو نتيجة.
ويظهر هذا الاختلاف أيضًا في أساليب التدريب؛ إذ تعتمد النماذج التقليدية في الغالب على بيانات مصنفة وتعليم مباشر، بينما تبدأ النماذج التوليدية بالتعلم من بيانات غير مصنفة على نطاق واسع، ثم تُحسَّن لاحقًا عبر مراحل إضافية تشمل تدخلًا بشريًا لتوجيه السلوك وتحسين جودة المخرجات. وتُعد الكلفة المرتفعة لتدريب هذه النماذج من أبرز سماتها، حيث تتطلب بنى تحتية حاسوبية ضخمة واستثمارات مالية هائلة.
آلية العمل من الداخل
من الناحية التقنية، تُبنى النماذج التوليدية على شبكات عصبية عميقة تتكون من طبقات مترابطة، تحتوي كل منها على عدد كبير من المعاملات الرقمية. ويُقاس حجم النموذج عادة بعدد هذه المعاملات، التي قد تصل في النماذج المتقدمة إلى مئات المليارات أو أكثر. وتعتمد معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي الحديثة على ما يُعرف بنماذج الأساس، وهي نماذج يتم تدريبها مسبقًا على كميات هائلة من البيانات غير المصنفة، ما يمنحها مرونة عالية في تنفيذ مهام متنوعة دون الحاجة إلى إعادة تدريب كامل لكل حالة استخدام.
وتندرج نماذج اللغة الكبيرة ضمن هذه الفئة، حيث تُصمَّم خصيصًا للتعامل مع النصوص واللغة، وتُستخدم في التلخيص، والتحليل، والكتابة، والمحادثات المفتوحة، واستخراج المعلومات، اعتمادًا على التنبؤ الاحتمالي بالكلمة أو الرمز التالي ضمن سياق معين.
وأثناء التدريب، تُعرض على النموذج كميات ضخمة من البيانات، ويُطلب منه تنفيذ مهام تنبؤية بسيطة، مثل توقع الكلمة التالية في نص معين. ومع تكرار هذه العملية، تُعدَّل الأوزان الداخلية تدريجيًا، ما يسمح للنموذج باكتساب قدرة متزايدة على إنتاج محتوى مترابط ومعقد. وبعد انتهاء مرحلة التدريب الأساسية، يمكن تحسين النموذج من خلال تقييم بشري مباشر يهدف إلى رفع جودة الاستجابات وتقليل الأخطاء.
ورغم هذا الوصف، لا تزال الكثير من تفاصيل عمل هذه النماذج غير واضحة حتى لمطوريها، وهو ما يدفع إلى وصفها غالبًا بأنها "صناديق سوداء" يصعب تفسير قراراتها بدقة.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي
تتجلى أهمية الذكاء الاصطناعي التوليدي في كونه أداة قادرة على أتمتة جزء كبير من العمل المعرفي، تمامًا كما أحدثت الآلات ثورة في العمل اليدوي خلال الثورة الصناعية. فهو يتيح للإنسان تفويض مهام الكتابة والتحليل الأولي والتصميم، ما يفسح المجال للتركيز على التفكير الاستراتيجي واتخاذ القرار.
وفي مجالات الأعمال والتسويق، يمكن لهذه النماذج التعامل مع بيانات غير منظمة، واستخلاص أنماط ورؤى بسرعة كبيرة. وفي قطاع البرمجيات، تُستخدم للمساعدة في كتابة الشيفرات، وفهم الأكواد المعقدة، واكتشاف الأخطاء. كما تلعب دورًا متزايدًا في البحث العلمي، من خلال دعم عمليات المحاكاة والتصميم وتسريع الابتكار.
وتتوزع تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي على نطاق واسع، يشمل تحسين التواصل داخل المؤسسات، وترجمة المحتوى، وتخفيف الأعباء الإدارية، وتحليل الصور الطبية، ودعم خدمات العملاء، والمساهمة في اكتشاف الأدوية، وتحليل البيانات الجينية، والتنبؤ بالمحاصيل الزراعية، ومكافحة الاحتيال المالي.و
وتحقق المؤسسات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي التوليدي مكاسب ملموسة، من حيث رفع الإنتاجية، وتقليل التكاليف، وتحسين جودة الخدمات، وتسريع طرح المنتجات. إلا أن هذه الفوائد ترتبط بتحديات لا يمكن تجاهلها، أبرزها الحاجة إلى إشراف بشري دائم، والاستعداد لتحولات جوهرية في طبيعة الوظائف والمهارات المطلوبة في المستقبل.
الأثر الاقتصادي ومستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي
تشير تقديرات اقتصادية إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يسهم في إضافة تريليونات الدولارات إلى الاقتصاد العالمي خلال العقد المقبل، مدفوعًا بارتفاع الإنتاجية وتسريع الابتكار. غير أن تبني هذه التقنية يتطلب استراتيجيات واضحة، تبدأ بتطبيقها في البيئات الداخلية، وتعزيز الشفافية مع المستخدمين، وفرض ضوابط صارمة لحماية البيانات، إضافة إلى اختبار النماذج بشكل مستمر لضمان موثوقية النتائج.
وما تزال النماذج التوليدية تواجه تحديات تتعلق بالتكلفة العالية، وصعوبة تفسير قراراتها، واحتمال إعادة إنتاج تحيزات البيانات التي دُرّبت عليها. كما أن قدرتها الإبداعية، رغم اتساعها، تظل مرتبطة بما هو متاح في بيانات التدريب، ولا ترقى إلى التجربة الإنسانية الكاملة. ولهذا، يبرز الاستثمار في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وبناء المهارات كعنصر أساسي، سواء عبر التعليم الأكاديمي أو الدورات المهنية، لضمان استخدام واعٍ ومسؤول لهذه التقنية.
في النهاية، لا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي بوصفه مجرد أداة تقنية جديدة، بل كتحول عميق في علاقة الإنسان بالتقنية، يعيد تعريف مفاهيم الإبداع والعمل والمعرفة، ويفرض على الحكومات والمؤسسات والأفراد التعامل معه باعتباره ملفًا استراتيجيًا طويل الأمد.
هذا المحتوى مقدم من العلم
