الدراسات العربية في إيطاليا

فبتَتبُّع مسار الاهتمام بلغة الضاد وبالدراسات العربية في هذا البلد، يُمكِن العودةُ بالانشغال إلى البابا كليمنت الخامس (1264-1314م)، الذي حثَّ في إحدى عظاته في فيينّا، سنة 1311م، على ضرورة إيلاء تدريس العربية والعبرية والكلدانية والسريانية عناية في مختلف العواصم الأوروبية، بغرض أداء العمل التبشيريّ على أحسن وجه. وتُعدّ تلك الدعوة -وبصرف النظر عن مغزاها- عاملًا مهمًّا في لفت الانتباهِ إلى العربية والحثّ على الإلمام بها.

حواضر تدريسِ العربيّة

ضمن هذا السياق، يُمكِن الحديث عن حواضر رئيسيةٍ أربع في إيطاليا شهدت مبكّرا تدريس اللغة العربية، حتى غدت مراكز تاريخية في هذا المجال. تُعتَبر روما الأعرق في المجال بين سائر المدن الإيطالية وذلك منذ العام 1575م، حيث لم يدّخر البابا سيكتوس الرابع (1414-1484م) جهدًا في تكليف مكتبة الفاتيكان بمهامّ تدريس العربية وتهيئة الإطار اللازم لذلك، وإن جاء تدريسُ العبرية أسبق بما يعود إلى العام 1482. ما جعل روما، بين مطلع القرن السادس عشر وموفى القرن السابع عشر، تحوز الصدارة بين حواضر أوروبا في الدراسات الشرقية وفي تعليم اللغات، الذي شمل الأرمينية والقبطية، فضلا عن اللغات السامية الرئيسة. لكن مع توحيد إيطاليا، خلال العام 1861م، بدأ تراخي الطوق الذي ضربته كنيسة روما على تعليم اللغات الشرقية عامّة، ومنها العربية، وذلك لفائدة خيارات ذات طابع لائكيّ. وتدعَّمَ ذلك منذ تولّي المستعرِب ميكيلي أمّاري صاحب مؤلّف "تاريخ مسلمي صقلية" (1854-1872) مقاليد وزارة التعليم في حكومة فارينا (1862-1864)، وهو ما انعكست آثاره على كلية الآداب والفلسفة حينها، بخروج جامعة روما من الهيمنة البابوية واتخاذها طابعًا علمانيًّا (1871-1875)، حيث تولّى لويجي فنشنسي تدريسَ العبرية، وباولو سكاباتيشي السريانية، وجوهانس بولينغ العربية.

حذَتْ نابولي حذو مدينة روما، فكان تشييد "المعهد الجامعي الشرقي"، المعروف بـ "الأورِيِنْتالي" والتابع حينها إلى رهبانية معهد عائلة يسوع المسيح المقدّسة، والذي يُعزى الفضل في تأسيسه إلى المبشّر ماتيو ريبا. فقد حاز المعهد اعترافَ البابا كليمنت الثاني عشر في السابع من أفريل 1732م ويُرجَّح أنّ تدريس العربية قد انطلقَ في السنة نفسها، حيث لم تمضِ سوى بضع سنوات حتى بات محجًّا للدارسين والطلّاب من مختلف الأصقاع. ففي سنة 1747 اِلتحَقَ بالمعهد فتيةٌ وفدوا من الدولة العثمانية، من ألبانيا والبوسنة واليونان ولبنان ومصر، بغرض تكوينهم وسيامتهم كهنة للتبشير بالكاثوليكية في بلدان المأتى. وبعد توحيد إيطاليا بات المعهدُ يضمّ قسميْن: قسمٌ قديم للتبشير وآخر مستحدث خُصِّص للشبان الوافدين من خارج المؤسسات الدينية اهتمّ باللغات الشرقية.

بينما اِنطلق تدريسُ العربية في مدينة باليرمو مع إنشاء كرسي اللغة العربية في أكاديمية الدراسات سنة 1785م. ومن الطريف اقتران تلك البداية بفضيحة أكاديمية، حيث انْتحلَ شخصٌ صفة أستاذ وتولّى مهامّ تدريس العربية، غدت ذكراه مدعاة للتندّر في الأوساط العلميّة. حيث اِدّعى زورًا الراهب جوسيبي فيللا، الذي يَعرِف مفردات متناثرةً من العربية جنب لغته الأمّ المالطية أنّه يحذق العربية، وانتحل صفة مؤلِّف لعملٍ تاريخيٍّ، بما خوَّلَ له اعتلاء كرسي العربية حديث التأسيس، فطفق يدرّس المالطية المطعَّمة بمفردات عربية على أنها الفصحى، معتمدًا في ذلك الأبجدية العربية. حادثة "الخدعة السراسينية"، كما باتت تعرف، تحوّلت في فترات لاحقة إلى موضوع طريف للتندّر، مع بعض الشعراء والكتّاب الإيطاليين، كجوفاني ميلي وليوناردو شاشا وأندريا كاميلاري.

وفي مرحلة متأخّرة اِنضمّت البندقية إلى صفِّ تلك المدن الرائدة، تحت حافز الرحلة والتجارة، وبرغم الموقع المتقدّم الذي حازته المدينة في علاقتها بالشرق، فقد تأخّرت نسبيًّا في تشييد معلم علميّ يتكفّل بالدراسات العربيّة، رغم أنّ حاجة ماسّة إلى ذلك لاحت منذ وقت مبكّر، منذ إعداد ما كان يُعرَف بـ "الـدراغوماني السبعة"، أي التراجمة السبعة، بغرضِ تكليفهم بمهامّ الوَسَاطة مع الدولة العثمانية. ولم يتسنَّ تدريسُ اللغة العربية في مؤسّسة علميّة سوى مع تأسيس المعهد العالي للتجارة سنة 1853م، وقد اعتنى بالتخصصات الاقتصادية والتجارية، إلى جانب عنايته باللغات الأجنبية بهدف الدفاع عن المصالح الإيطالية في الخارج. وبشكل عامّ اِنحصر تعلُّمُ العربية، حتى القرن التاسع عشر، في أوساط التجّار والسّاسة ممن يتردّدون على البلاد العربية. فكانت معرفةٌ لغرض التواصل، وافتقرت إلى الأسس العلمية المتينة، وهكذا نُشرت قواميس في الغرض أحدها لأوغو دي كاستلنوفو ورفائيل دي توتشي سنة 1912، بالإضافة إلى طبع مجلّدين للنحو العربي في ميلانو سنة 1912 من إعداد أوجينيو ليفي.

الدراسات العربيّة والمستعمِر

رافقت العنايةُ باللغة العربية اهتمامات بطباعةِ المؤلّفات المدوَّنةِ بالحرف العربيّ، وذلك منذ وقت مبكر، فكان طبعُ أولى نسخ القرآن الكريم في البندقية سنة 1537م، وإن تمَّ إتلافها بأمرٍ من البابا بولس الثالث (1468-1549م) على ما أورده الباحث أنجيلو ميكيلي بيمونتيزي في مؤلّفه: "البندقية وانتشار الأبجدية العربية في إيطاليا"؛ بالإضافة طُبعت نسخةٌ عربيةٌ من الأناجيل في المطبعة الفاتيكانية يعود تاريخها إلى العام 1590م. لتتوالى المطبوعات بنشرِ أربعة مجلّدات من "القاموس المحيط" للفيروز آبادي، وإن سبق ذلك وجود قواميس عربية مخطوطة بخطّ اليد، منذ أواخر القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عشر، على غرار القاموس العربيّ اللاتينيّ المودَع اليوم في مكتبة ريكارديانا في مدينة فلورانسا.

ولئن كانت الدراسات العربية الوسيطة والحديثة في إيطاليا كنسيّةَ المنشأِ فإن الحاضنة المعاصرة هي استعمارية. فقد اِنضمّ ثلّةٌ من آباء الاستشراق الإيطاليّ الحديث إلى "لجنة المصالح الاستعمارية المكلَّفة بالشؤون الإسلامية" - Commissione per lo studio delle questione islamiche d interesse coloniale - سنة 1914، منهم ليونه غايطاني وكارلو ألفونسو نللينو ودافيد سانتيللانا، وهذا الأخير هو تونسي يهودي الديانة عُيِّن سنة 1913 أستاذا للتشريع الإسلامي في جامعة روما. وقد أورَدَ الباحث فلافيو ستريكا في بحثٍ بعنوان: "كارلو ألفونسو نللينو ومشروع احتلال ليبيا"، في مجلّة "حوليات" الصادرة عن كلية العلوم السياسية في كالياري (سنة 1983) أنّ المستشرِقَ نللينو قد شارك في مجمَل الاجتماعات واللّجان التي أَسْدت المشورة للمستعمِر بشأن القضايا الإسلامية إبّان احتلال ليبيا.

خلال تلك الحقبة شهد الاهتمامُ بالعربيّة تحوُّلًا، فقد تزايدت العناية باللهجات. حيث نشر ألفريدو ترومبيتي في مدينة بولونيا كتابًا عن اللّهجة الطرابلسيّة سنة 1912. وتقريبا في الفترة نفسها اِشتغل كارلو ألفونسو نللينو على الدارجة المصرية (1913)، حيث لا يزال عمله يُعَدّ من المصادر الأساسية إلى الحاضر. لتغدو اللهجات العربية من بين المحاور التقليدية التي يوليها الباحثون الإيطاليون اهتمامًا. وفي مرحلةٍ لاحقةٍ اهتمّت إستر بانيتا بالدارجة والفولكلور في بنغازي (1964). وتواصلَ ذلك الشغف إلى تاريخنا الراهن مع أوليفييه دوران الأستاذ بجامعة روما، حيث نشر سنة 1993 "ملامح من الدارجة المغربية"،.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من باب نت

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من باب نت

منذ ساعتين
منذ 4 ساعات
منذ 18 دقيقة
منذ 50 دقيقة
منذ 54 دقيقة
منذ 46 دقيقة
قناة نسمة التونسية منذ ساعتين
تونس كوب منذ ساعة
باب نت منذ 4 ساعات
جريدة الحرية التونسية منذ 17 ساعة
موقع المصدر منذ 23 ساعة
موقع المصدر منذ 23 ساعة
جريدة الحرية التونسية منذ 21 ساعة
باب نت منذ 14 ساعة