من الذكاء إلى العزلة.. كيف يُصاب الذكاء الاصطناعي الوكيل بالتوحّد المؤسسي؟

في المقال السابق، ناقشنا فكرة قد تبدو غير مريحة لبعض المتحمسين للتقنية: الذكاء الاصطناعي الوكيل لا يمكنه إنقاذ مؤسسة لم تنضج إداريًا. فالتقنية، مهما بلغت من تطور، لا تعوّض غياب وضوح القرار أو ضعف الحوكمة. لكن المشكلة أحياناً تصل المؤسسات التي تجاوزت مرحلة الاندفاع العاطفي نحو الذكاء الاصطناعي، وبدأت تتعامل معه بقدر من النضج، حيث تظهر اليوم مشكلة جديدة لا تقل تعقيدًا: فوضى الوكلاء. خلال فترة قصيرة، تحوّل بناء وكلاء ذكاء اصطناعي إلى ما يشبه موضة إدارية. وكيل لخدمة العملاء، وآخر للمشتريات، وثالث للموارد البشرية، ورابع للتقارير، وخامس لا أحد يتذكر تمامًا لماذا بُني، لكنه موجود ويعمل بحماس. النتيجة؟ مؤسسة مليئة بوكلاء أذكياء لكنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض. وهو ما يمكن أن نطلق عليه مسمى «التوحد المؤسسي للوكلاء» أو الموظف الرقمي. تجزئة القرار وتضارب الوكلاء الذكاء الاصطناعي الوكيل لا يشبه أدوات التحليل التقليدية. فهو لا يرفع تقريرًا وينتظر التوقيع، بل يتخذ القرار وينفذه. وعندما يُبنى كل وكيل داخل نظام أو إدارة بمعزل عن الآخرين، فإنه يتصرف كما لو كان موظفًا يعمل بمفرده، ولا يجيد العمل ضمن فريق متكامل.

تشير تقارير Gartner إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لفشل مشاريع الذكاء الاصطناعي المتقدم هو ما تصفه بـ«تجزئة القرار داخل المؤسسة». عمليًا، يصبح لدينا وكلاء يتخذون قرارات صحيحة وفق منطقهم الخاص، لكنها تتصادم عند التطبيق. وكيل المشتريات يختار الأرخص، وكيل الجودة يطالب بالإيقاف الفوري، وكيل التخطيط يفترض سيناريو مختلفًا تمامًا. جميعهم أذكياء، لكن المؤسسة عالقة في المنتصف.

الوكيل ليس أداة.. بل موظفاً رقمياً هنا تكمن العقدة الذهنية الضرورية. إذا كنا نتوقع من الوكيل أن يتخذ قرارًا، فلا يمكننا التعامل معه ككود برمجي صامت. الوكيل هو، عمليًا، موظف رقمي. والموظف -سواء كان بشريًا أو رقميًا- لا يعمل بكفاءة دون وصف وظيفي واضح، وصلاحيات محددة، ومعرفة دقيقة بكيفية التعامل مع زملائه من الموظفين البشر أو الموظفين الرقميين. لا أحد في مؤسسة عاقلة يوظف عشرات الموظفين ثم يقول لهم: أن يحددوا علاقاتهم وصلاحياتهم بأنفسهم . ومع ذلك، هذا بالضبط ما تفعله بعض المؤسسات مع وكلاء الذكاء الاصطناعي. تُطلقهم في الأنظمة، ثم تتفاجأ عندما يبدأ كل واحد منهم بالتصرف وكأنه المدير التنفيذي.

والمفارقة اللطيفة هنا أننا لم نعد مطالبين فقط بإتقان إدارة الموارد البشرية، بل أصبح لدينا ذكاء اصطناعي يتدلّل أيضًا، يحتاج إلى وضوح، وحدود، وقواعد تعامل وإلا أساء الفهم، وربما أساء التصرّف أو نستغرب تصرفه لإصابته بالتوحد المؤسسي.

لذلك، فإن تنظيم العلاقة بين الوكلاء لم يعد ترفًا هندسيًا، بل ضرورة إدارية. كل وكيل يجب أن يعرف متى يقود، ومتى يستشير، ومتى يتراجع. تمامًا كما يُفترض أن يحدث في أي فريق عمل بشري. البيانات: الوقود.. وليس الديكور حتى لو نجحت المؤسسة في تنظيم علاقات الوكلاء، تبقى جودة البيانات مشكلة مزمنة لا يمكن القفز فوقها. فالذكاء الاصطناعي، رغم كل ما يُقال عنه، لا يمتلك حدسًا خارقًا. هو يتغذى على ما نقدمه له. وفي سياق متصل تشير دراسات IBM وMcKinsey إلى أن ما يصل إلى 70% من أخطاء أنظمة الذكاء الاصطناعي في المؤسسات تعود إلى ضعف البيانات أو غياب حوكمتها. ومع الوكلاء، تصبح المشكلة أكثر حساسية، لأن الخطأ لا يبقى في تقرير، بل يتحول إلى قرار يُنفَّذ فورًا. هنا تظهر الهلوسة ، لا كنص غريب، بل كسلوك تشغيلي غير منطقي. وعندما يعمل كل وكيل على بيانات مختلفة، أو على تعريف مختلف لنفس المؤشر، فإننا لا نحصل على ذكاء اصطناعي، بل على جدل داخلي لكن بسرعة أعلى. الربط هو ما يصنع الذكاء المؤسسي التجارب القليلة التي حققت نجاحًا فعليًا مع الذكاء الاصطناعي الوكيل تشترك في عامل واحد: الربط. ربط الوكلاء ببعضهم، وربطهم بسياق استراتيجي ومؤسسي واضح، وربط البيانات والتطبيقات ضمن إطار حوكمي واحد. ولهذا، تتجه المؤسسات الأكثر نضجًا إلى بناء طبقة تنظيمية موحدة تشبه نظام تشغيل لفرق الوكلاء، تُعرّف الأدوار والصلاحيات، وتتيح تتبع القرارات ومراجعتها، وتفصل بين الوكلاء والأنظمة الحساسة عبر بوابة ذكية تضبط الوصول وتوثّق كل إجراء. وفي قلب هذا التنظيم، يتغير منطق التصميم نفسه: من وكيل واحد يحاول فعل كل شيء، إلى شبكة من وكلاء متخصصين يتعاونون ضمن منظومة واضحة، لكل منهم دور وحدود وتكامل منظم كفريق عمل رقمي واحد. ويشبه تطور الوكلاء اليوم ما عملت على بنائه البشرية خلال العقد الماضي في بناء أنظمة الربط في واجهات الأنظمة والتي سميت فيما بعد باسم «بنية السباغيتي» بسبب تعقيدها، وتم حل المشكلة من خلال بوابة واجهات الأنظمة API Management مثل منصة webMethods من شركة IBM. ويضاف لذلك ما تقدمهIBM في WatsonX من ميزات حوكمة البيانات وبوابة ذكية لإدارة الوكلاء وتحديد علاقاتهم من خلال بروتوكولات مثل MCP (Model Context Protocol) والتي تشكل خطوة أساسية نحو إنهاء فوضى التكامل في الذكاء الاصطناعي الوكيل، عبر تحويل الوصول إلى البيانات والأدوات من اجتهاد فردي لكل وكيل إلى طبقة مؤسسية محكومة وقابلة للتدقيق. وفي هذا السياق، يشير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن التحدي الحقيقي في الأنظمة الذكية المتقدمة لا يكمن في بناء قدرات مستقلة أكثر، بل في ضمان أن تعمل هذه القدرات ضمن منظومة واحدة يمكن فهم قراراتها، وتتبعها، ومساءلتها. فالثقة في الذكاء الاصطناعي، بحسب المنتدى، تُبنى على التناغم والتنظيم بقدر ما تُبنى على الذكاء. عندها فقط، يتوقف الوكيل عن كونه موظفًا عبقريًا يعمل لوحده ، ويبدأ بالتصرف كجزء من منظومة. منظومة لا تتخذ القرار فقط، بل تفهم لماذا اتخذته، ومتى يجب تعديله، ومتى يجب التوقف. خلاصة الحديث إذا كان النضج المؤسسي هو شرط الدخول إلى عالم الذكاء الاصطناعي الوكيل، فإن تنظيم الوكلاء هو شرط البقاء فيه. بناء وكلاء منفصلين دون تعريف أدوارهم وعلاقاتهم يشبه بناء مؤسسة بلا هيكل تنظيمي: الجميع يعمل، لكن لا أحد يعرف إلى أين نتجه. وهنا نضيف لما طرحناه سابقاً، فمن الأفضل أن نسأل قبل: كم وكيلاً نحتاج؟ ربما علينا أن نسأل أولًا: هل نعرف كيف نُدير موظفينا الرقميين، أم أننا فقط أعطيناهم مفاتيح المكتب وغادرنا؟ وهل نملك فعلًا بيانات يمكن الوثوق بها؟ أم أننا نطلب من الذكاء الاصطناعي أن يكون ذكيًا ببيانات غير صحيحة؟ تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.


هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من منصة CNN الاقتصادية

منذ 7 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 9 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 16 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 15 ساعة
قناة العربية - الأسواق منذ 8 ساعات
قناة CNBC عربية منذ 8 ساعات
صحيفة الاقتصادية منذ 7 ساعات
قناة CNBC عربية منذ 5 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 40 دقيقة
قناة CNBC عربية منذ 9 ساعات