السوسيولوجيا في مواجهة الأحزاب السياسية : اختبار الحقيقة

بقلم : فؤاد بوجبِير

باحث في علوم الإدارة (التدبير العمومي)

*مقدمة*

منذ أن منحت الإنسانية نفسها قادة سياسيين، عاشت السياسة في الضوء، ضوء الخطب، والرموز، والوعود. أما السوسيولوجيا، فهي تعمل في الظل، تراقب، تسائل، وتكشف المستور.

وبين هذين النمطين من النظر، تسللت دائمًا حالة من التوتر. فبينما يبني السياسي سردية المجتمع، يكشف السوسيولوجي آلياته الخفية. الأول يحتاج إلى الإيمان بوهم الإجماع، والثاني يبحث عن حقيقة الاختلاف.

وكما قال الفيلسوف ميشيل فوكو : حيثما تمارَس السلطة السياسية، تنشأ أشكال من المقاومة ، وقد تكون هذه المقاومة ناعمة، صامتة، تحليلية؛ إنها مقاومة الفكر السوسيولوجي.

في البلدان الصاعدة، حيث تُبنى الحداثة وسط الاضطراب، يتحول هذا التوتر إلى ما يشبه المأساة. فغالبًا ما ينظر القادة السياسيون إلى السوسيولوجيا بوصفها ترفًا فكريًا، بل أحيانًا تهديدًا، لأن فهم المجتمع يعني، في حد ذاته، الشروع في مساءلته.

وسنبيّن من خلال هذا المقال أن خوف السياسيين من السوسيولوجيا يعود إلى كونها :

(1) تكشف الآليات التي تستغلها الأحزاب السياسية في السلطة،

(2) تزعزع السرديات الحزبية والأساطير التاريخية،

(3) تُسمِع أصوات الفئات غير المرئية، مانحةً للعلوم الاجتماعية بعدًا ديمقراطيًا عميقًا،

(4) وتتخذ، في السياق المغربي المعاصر، تعبيرًا خاصًا ومميّزًا.

1 */ كشف الآليات التي تستغلها الأحزاب الحاكمة : السوسيولوجيا كمرآة مُقلقة*

منذ نشأتها، حملت السوسيولوجيا طموحًا واضحًا : فهم المجتمع بما يتجاوز المظاهر. فقد أراد أوغست كونت لها أن تكون علم النظام والتقدم، لكنها سرعان ما تحولت إلى علم الكشف والتعرية. جعلها كارل ماركس أداة نقدية حادة، مشرطًا إيديولوجيًا، حين كتب : لم يكتفِ الفلاسفة بتفسير العالم، بل آن الأوان لتغييره .

ففهم آليات اشتغال المجتمع يعني، بالضرورة، زعزعة أسس سلطة سياسية يغذيها بعض المسؤولين السياسيين الذين يتصرفون وكأنهم آلهة في المشهد العمومي.

أما ماكس فيبر، فقد سعى، من منظور مغاير، إلى تجريد السلطة السياسية من كل غموضها، ونزع القداسة التي يدّعيها بعض السياسيين. فبالنسبة له، السياسة ليست رسالة إلهية، بل شكل من أشكال التنظيم القائم على الإكراه.

هذا المنظور البارد والواقعي يُرعب الحكّام والمسؤولين السياسيين، لأن السوسيولوجيا تُسقط الأقنعة، وتكشف منطق الهيمنة الاقتصادية والرمزية والثقافية الكامن خلف خطابات الشرعية.

وقد بيّن بيير بورديو، في كتابه نبل الدولة، كيف تعيد النخب إنتاج شروط بقائها، وتُقدّم ذلك على أنه استحقاق . ولا شيء يُخيف السياسيين أكثر من علم قادر على تفكيك أوهامهم.

وفي البلدان الصاعدة، يتخذ هذا الكشف شكل نزع القداسة عن السياسي. إذ كتب السوسيولوجي الكونغولي جان مارك إيلا : حقيقة السياسيين في السلطة هي خوفهم من الحقيقة . وربما هنا تبدأ المخاوف، حين يتحول السياسي إلى موضوع للدراسة، إلى شيء يُنظَر إليه، بينما هو يريد دائمًا أن يكون الناظر لا المنظور إليه.

2 */ السوسيولوجيا في مواجهة السرديات : الخوف من خيبة الوهم*

السياسة ابنة السرد. فهي تحتاج إلى لغة أسطورية : التنمية، الحداثة، الوحدة. هذه السرديات تُغذّي شرعية القادة السياسيين وتمنح الفعل الجماعي معنى. لكن السوسيولوجيا تُدخل التمايز إلى الأسطورة، فهي تُبيّن أن المجتمعات تعبرها الشقوق، والتناقضات، وموازين القوى، فتحوّل الخيال السياسي إلى تشخيص اجتماعي.

وقد وصف بورديو السوسيولوجيا بأنها رياضة قتالية ، لا ضد الأشخاص، بل ضد البداهات. فهي تهاجم كل ما يعتبره السياسيون أمرًا مسلمًا به : الهرميات، اللامساواة، أدوار النوع الاجتماعي، وشرعية النخب. لذلك يخشاها السياسيون، خاصة في البلدان الصاعدة، لأنها تمنح الكلمات لما يفضّل البعض إسكاته.

في البرازيل، بينما يمجّد الخطاب الرسمي الديمقراطية العرقية ، يبرهن فلوريستان فرنانديز أن العنصرية ما تزال تُنظّم العلاقات الاجتماعية. وفي الهند، تُظهر أعمال أمارتيا سن وفاندانا شيفا أن التنمية الاقتصادية لا تعني بالضرورة عدالة اجتماعية.

وهكذا، تعمل السوسيولوجيا في المجتمعات المتحوّلة كمرآة غير مُجاملِة، تكشف تصدعات حلم التقدم.

3 */ إعادة الكلمة إلى غير المرئيين : السوسيولوجيا كفعل ديمقراطي*

إذا كانت السوسيولوجيا تُخيف السياسيين في السلطة، فلأنها تُعيد الصوت إلى من تمّ تهميشهم. فقد أدرك دوركايم أن المجتمعات تُعرَّف بقواعدها بقدر ما تُعرَّف بهوامشها. ودراسة الانحراف، والانتحار، و التهميش، والفقر، هي في جوهرها دراسة لأسس التضامن الاجتماعي.

في البلدان الصاعدة، يكتسب هذا البعد الديمقراطي أهمية خاصة. فالسوسيولوجيا تصبح لغة المنسيين، وأداة لسماع ما لا تُصغي إليه السياسة.

فحين تحلّل السوسيولوجية السنغالية فاتو سو علاقات النوع الاجتماعي، فهي لا تنتج معرفة فحسب، بل تخلق حضورًا واعترافًا. وكذلك في أمريكا اللاتينية، تحوّل أعمال باولو فريري وأورلاندو فالس بوردا البحث السوسيولوجي إلى تربية على التحرر.

إن السوسيولوجيا ليست نقدية فقط، بل هي صانعة للفضاء العمومي، تفتح مساحات للكلام حيث تُغلق السياسة الأبواب. وهنا تكمن خطورتها بالنسبة للسياسيين : فهي تُبيّن أن الشرعية لا تخصّ من يسيرون فقط، بل تشمل أيضًا من يتحمّلون تبعات التدبير العمومي.

وكما كتبت حنّة آرندت : الفهم لا يعني التبرير، بل مواجهة الواقع وتعلّم الوقوف عنده . غير أن السياسي يعيش على الوعود، بينما يعيش السوسيولوجي على الوقائع. الأول يريد الإلهام، والثاني يريد الإضاءة، وأحيانًا يخيف النور.

4 */ حالة المغرب : حين تضع السوسيولوجيا الأحزاب أمام مسؤولياتها*

يقدّم المغرب مثالًا دالًا على هذا التوتر بين السياسة والسوسيولوجيا. فمنذ الاستقلال، اتسمت علاقة السلطة السياسية بالعلوم الاجتماعية بالازدواجية : افتتان بقدرتها التشخيصية، وخشية من طاقتها النقدية.

منذ ستينيات القرن الماضي، مهّدت أسماء مثل عبد الكبير الخطيبي وفاطمة المرنيسي و محمد جسوس الطريق لفكر سوسيولوجي جريء ومتجذّر في الواقع المغربي. وقد أحدثت المرنيسي، على وجه الخصوص، زلزالًا في تمثلات السلطة والنوع الاجتماعي. ففي الحريم السياسي، تُبيّن أن النظام الأبوي ليس قدرًا دينيًا، بل بناءً تاريخيًا واجتماعيًا.

وبتفكيكها لهذه الأساطير، لامست جذور السلطة الرمزية، فغدت سوسيولوجيتها فعل شجاعة، وأحيانًا فعل مقاومة.

خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أبقت السلطة السياسية النقد السوسيولوجي على مسافة، قبل أن يظهر اهتمام متأخر. وكثيرًا ما جرى كتم أو توظيف الدراسات الاجتماعية حول اللامساواة، والشباب، والهامش الحضري.

وحتى داخل الجامعة، نُظر أحيانًا إلى السوسيولوجيا باعتبارها تخصّصًا خطيرًا، لأنها تمنح الكلمة للشباب المحبط، والنساء القرويات، والطبقات الشعبية.

لكن الزمن يتغير. فاليوم، تُعيد أجيال جديدة من الباحثين المغاربة، مثل عبد الله ساعف، ومحمد توزي، وعائشة بلعربي وغيرهم، التفكير في العلاقة بين السياسة، والدين، والمجتمع بنظرة أكثر تركيبًا. ويغدو المغرب، بين التقاليد والحداثة الاجتماعية، مختبرًا تحاول فيه السوسيولوجيا التفكير في التغيير دون قطيعة.

ومع ذلك، يظل الخوف قائمًا؛ الخوف مما قد تكشفه الكلمة السوسيولوجية عن الشروخ الاجتماعية، واستمرار اللامساواة، وقلق الشباب الحضري. وهكذا، في المغرب كما في غيره، ما يزال بعض المسؤولين السياسيين يخشون المعرفة، خوفًا من أن تتحول الحقيقة السوسيولوجية إلى قضية سياسية.

*خاتمة*

إن خوف السياسيين من السوسيولوجيا ليس مسألة غرور أو تنافس فكري، بل هو تعبير عن صراع عميق بين نظامين للحقيقة.

فالسياسيون يسعون إلى تشكيل العالم، بينما تحاول السوسيولوجيا فهمه.

الأولون يعتمدون على الإيمان، والوعد، والسرد؛ أما السوسيولوجيا فترتكز على الوضوح، والتحليل، والمسافة النقدية.

في البلدان الصاعدة، ولا سيما في المغرب، يعكس هذا التوتر بحث المجتمع عن ذاته. واليوم الذي يُدرك فيه السياسيون أن الفهم ليس خيانة، وأن السوسيولوجيا ليست تهديدًا بل مرآة، سيتوقف الخوف من المعرفة، وتغدو حليفًا للديمقراطية.

وكما قال الفيلسوف بول ريكور: الفهم هو أرقى أشكال الاعتراف . والاعتراف بالمجتمع هو الخطوة الأولى نحو جعله أكثر عدلًا.


هذا المحتوى مقدم من أشطاري 24

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من أشطاري 24

منذ 9 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 5 ساعات
جريدة أكادير24 منذ 9 ساعات
هسبريس منذ 12 ساعة
هسبريس منذ 6 ساعات
هسبريس منذ 12 ساعة
بلادنا 24 منذ 10 ساعات
هسبريس منذ 6 ساعات
هسبريس منذ 14 ساعة
هسبريس منذ 15 ساعة