أكد أيوب محمد الفارسي، عضو لجنة السياسة النقدية بمصرف ليبيا المركزي وأستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي أن قرار طباعة 60 مليار دينار ليبي جاء كإجراء اضطراري ومؤقت لمعالجة أزمة السيولة، وليس حلاً جذرياً لمشكلة الخلل النقدي، محذراً من أن ضخ هذه الكتلة النقدية دفعة واحدة سيؤدي إلى ضغوط تضخمية حادة ويزيد من الطلب على النقد الأجنبي في السوق الموازية.
وأوضح الفارسي، في حوار لموقع «إرم بزنس» الإماراتي، أن الأزمة الحقيقية لا تكمن في نقص النقد، وإنما في فقدان الثقة بين المواطنين والقطاع المصرفي، وهو ما دفع شريحة واسعة من الليبيين إلى الاحتفاظ بالأموال خارج المصارف، بحيث أصبحت الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي تمثل رقماً ضخماً ومؤثراً في الاقتصاد.
وأشار الفارسي إلى أن عزوف المواطنين عن الإيداع أدى إلى تراكم كميات هائلة من السيولة خارج المصارف، موضحاً أن الأموال التي تخرج من النظام المصرفي لا تعود إليه إلا في نطاق محدود، غالبًا بغرض الحصول على النقد الأجنبي أو فتح الاعتمادات المستندية.
وأضاف أن هذه الكتلة النقدية لا تسبب فقط أزمة سيولة داخل المصارف، بل تؤدي إلى زيادة عرض النقود وارتفاع الطلب ومن ثم صعود الأسعار، ما يضغط على المستوى العام للأسعار ويضعف القدرة الشرائية للمواطنين.
وكشف عضو لجنة السياسة النقدية أن الـ60 مليار دينار لم تُطبع بالكامل، مفيداً بأن الدفعة الأولى المقدرة بنحو 12 مليار دينار وصلت بالفعل، ومن المتوقع توزيعها على فترة تمتد إلى ثلاثة أشهر.
وأكد أن المصرف المركزي يتعمد الضخ التدريجي للسيولة للحفاظ على توفر نقدي جزئي داخل المصارف، خصوصاً خلال الفترة التي تسبق وخلال شهر رمضان، دون إحداث صدمة نقدية قد تنعكس سلبًا على الاستقرار الاقتصادي وسعر الصرف.
وذكر الفارسي أن طباعة العملة جاءت في إطار سحب إصدارات نقدية ثبت أن كمياتها المتداولة تفوق ما هو مسجل رسمياً في دفاتر المصرف المركزي، وهو ما كان يمثل تهديداً مباشراً للنظام النقدي للدولة.
وشدد على أن استمرار تداول هذه الإصدارات كان سيقود إلى كارثة اقتصادية حقيقية، نتيجة فقدان السيطرة على حجم المعروض النقدي، وارتفاع الطلب على العملات الأجنبية بصورة غير منضبطة.
وحول سحب فئات دينار و5 و10 و20 ديناراً، إضافة إلى فئة 50 ديناراً بالكامل، أكد الفارسي أن هذه الإصدارات ألحقت أضراراً جسيمة بالاقتصاد الليبي لا يمكن قياسها رقمياً، لكنها تركت آثاراً عميقة على سلامة العملة واستقرارها.
وأردف أن كل عملية ضخ للسيولة كانت تُقابل بامتصاص فوري من قبل الكتلة النقدية الموجودة خارج المصارف، ما نشّط المضاربة على النقد الأجنبي، ودفع المصرف المركزي إلى استخدام جزء من احتياطياته للدفاع عن الدينار.
ولفت المسؤول في المصرف المركزي إلى أن وجود كتلة نقدية ضخمة تطارد كميات محدودة من النقد الأجنبي أدى إلى اختلال التوازن بين العرض والطلب، وانعكس ذلك في ارتفاع سعر الصرف بالسوق الموازية، وتراجع قيمة العملة المحلية.
وأشار إلى أن الخسائر لم تكن نقدية فقط، بل امتدت إلى تراجع المستوى المعيشي للمواطنين، إلى جانب تفشي غسل الأموال، حيث لا تزال كميات من الأموال غير المشروعة متداولة داخل الاقتصاد، وقد تحولت إلى أصول وممتلكات.
وكشف الفارسي أن فئتي العشرين والخمسين ديناراً كانتا تفوقان بكثير الأرقام المسجلة رسميًا، موضحاً أن فئة الخمسين وحدها تقارب 3 مليارات دينار مطبوعة خارج النظام المصرفي.
ونوّه إلى أن هذه العملة ليست مزورة من الناحية الفنية، إذ طُبعت بمواصفات مطابقة تماماً للعملة الرسمية، ولا تستطيع أجهزة كشف التزوير التفرقة بينها وبين العملات القانونية، ما جعلها تمثل خطراً بالغاً على سلامة النظام النقدي.
وأفاد الفارسي بأن المصرف المركزي يعمل على تشجيع الدفع الإلكتروني كأحد أهم أدوات تخفيف أزمة السيولة، معتبرا أن التحول الرقمي لم يعد خياراً بل ضرورة يومية للمواطنين.
وأشار إلى أن المصارف الليبية توفر باقة واسعة من وسائل الدفع، تشمل البطاقات المحلية، والدفع عبر الهاتف، والرموز الرقمية، وأن حجم المعاملات الإلكترونية شهد نمواً كبيراً، وأسهم في تخفيف العبء على المواطنين.
وفي مسار موازٍ، كشف الفارسي عن توجه المصرف المركزي لإطلاق شهادات مضاربة استثمارية بعائد يصل إلى 6%، متوافقة مع الشريعة الإسلامية، بهدف تشجيع المواطنين على إعادة أموالهم إلى المصارف.
وأوضح أن هذه الخطوة تواجه تحديات، أبرزها تفوق أرباح المضاربة في العملة الأجنبية، مشيراً إلى أن نجاح هذه الأداة مرهون بتقليص الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.
واستطرد عضو لجنة السياسة النقدية بمصرف ليبيا المركزي بأن الانقسام السياسي والمؤسسي يحدّ بشكل كبير من فاعلية السياسة النقدية، في ظل إنفاق عام غير منضبط، وهيمنة السياسة المالية، وغياب تنسيق حقيقي مع السياسات التجارية.
وألمح إلى أن المصرف المركزي حاول الحد من هذه الضغوط عبر توحيد بعض بنود الإنفاق، خصوصاً بند التنمية، لتجنب تخفيض جديد لقيمة العملة أو استنزاف الاحتياطيات الأجنبية.
وفي تقييمه لقدرة المصرف المركزي على حماية العملة خلال العامين المقبلين، شدد الفارسي على أن السياسة النقدية وحدها لا تكفي، مؤكداً أن ضبط الاقتصاد يتطلب تنسيقاً كاملاً مع السياسات المالية والتجارية، وضبط الإنفاق العام، وترشيد الاستيراد، ومكافحة التهريب.
وختم الفارسي بالتأكيد على أن المصرف المركزي أثبت حضوره كأهم مؤسسة اقتصادية فاعلة في المشهد الليبي، وأنه ماضٍ في تنفيذ إصلاحات تهدف إلى الحفاظ على استقرار الدينار، رغم التحديات السياسية والاقتصادية، معتبراً أن توحيد الحكومة وضبط المالية العامة سيمنح الاقتصاد الليبي فرصة حقيقية للتعافي.
هذا المحتوى مقدم من الساعة 24 - ليبيا
