الست.. فيلم لم يُعطِ ولم يَستَبقِ شيئاً

في عام 1999، قدم الثلاثي محفوظ عبد الرحمن كاتباً وإنعام محمد علي مخرجة وصابرين ممثلة، مسلسل"أم كلثوم"، المأخوذ عن قصة حياة سيدة الغناء العربي، وليس سيرة ذاتية لها، كان الغرض من صناعة هذا العمل هو تقديم قراءة بانورامية لطبيعة القضايا الحضارية الكبرى التي شكلت دخول المجتمع المصري إلى المدنية الحديثة مع بداية القرن العشرين (قرن التحولات الهائلة)، بعد أن خرج من عباءة الاحتلال العثماني المريض والميراث المملوكي البالي.

كانت رؤية صناع العمل تتلخص في توظيف تاريخ هذه السيدة، التي جاءت من قرية مجهولة في أعماق دلتا مصر كفتاة حسنة الصوت براقة الموهبة، ولولا الانفتاح الليبرالي وبداية عصر الاقتصاد القومي وتأسيس الجامعة وصياغة دستور 23 ونبوغ القامات الفكرية والفنية والثقافية والسياسية، التي شكلت ملامح هذا العصر، لما استطاعت متواضعة الجمال، خارقة الحنجرة، أن تصبح كوكب الشرق.

التاريخ هو أثر البشر في الزمن، والدراما في أساسها معنية بهذا الأثر وليس بالتاريخ نفسه، وقصة صعود أم كلثوم من وجهة نظر المسلسل لم تكن قصة نجاحها هي فقط، ولكن نجاح كل مقومات المدنية والتحضر والتعليم والثقافة والحراك السياسي في أن يصنع منها هذا الجبل الماسي حاد الإشعاع، خالد التأثير.

في الحقيقة، لا يخلو عمل فني مهما كان أسلوبه أو منهجه من غرض أو رؤية تقف وراء الدراما، وتشغل بال الصناع سواء كان الغرض جمالي أو الرؤية خاصة، ودون أن نبتذل كلاهما في مصطلح (الرسالة) المستفز، ومع التأكيد على أن الدراما وسيلة وليست غاية في ذاتها.

فما الغرض إذن أو الرؤية التي تقف خلف إنتاج فيلم مثل "الست"، من كتابة أحمد مراد وإخراج مروان حامد- الثنائي ميم الشهير- وقد انضمت إليهم هذه المرة ميم جديدة- منى زكي في دور أم كلثوم نفسها؟

مراد

يبدو بناء أم كلثوم الدرامي متأثراً إلى حد كبير ببناء تجارب سابقة؛ أشهرها فيلم "حليم" من كتابة محفوظ عبد الرحمن وإخراج شريف عرفه 2006، كلا الفيلمين يبدآن بلحظة سقوط، حليم سقط مريضاً في آخر حفلة له عام 76، وأم كلثوم سقطت على مسرح الأولمبيا عام 67 بينما تغني الأطلال- وليس إنت عمري كما جاء في الفيلم- بسبب معجب مخمور حأول تقبيل قدمها حباً وتبجيلاً.

وانطلاقاً من لحظة السقوط تلك لكلا الفنانين الكبيرين- لأسباب مختلفة- تشتعل شرارة العودة إلى البدايات، واستعادة ماضي الرحلة، عبر سرد غير خطي، يقفز بين المحطات الزمنية، محاولاً أن يرسم صورة لـ"مشوار الذكريات".

مبدأ الاستعادة في رواية السيرة هو مبدأ معروف أسلوبياً، لأنه يمنح الكاتب لحظة ارتكاز زمنية يمكن له أن يعود لها في أي وقت خلال فصول الفيلم، ويمنحه الحرية في التنقل بحرية بين المواقف والأزمنة التي ينتقيها من حياة الشخصية التي يقدم حكايتها.

اقرأ أيضاً

اقرأ أيضاً

"الست".. بين حدود الإبداع وسقف الشجاعة

منذ سنوات طويلة لم يثر فيلم مصري الجدل الذي أثاره فيلم "الست"، حتى قبل أن يبدأ عرضه بأيام وأسابيع، ومنذ طرح الملصق الدعائي للفيلم.

صحيح أنه تحول مع الوقت إلى نمط مستهلك (في عام 2007 قدم الفرنسي أوليفير داهان فيلمه La Vie En Rose عن قصة أم كلثوم فرنسا إديث بياف بنفس البداية التي تعتمد سقوط النجمة على المسرح ثم عودتها بالذاكرة الصوتية لتحكي حياتها منذ أن كانت صغيرة)، لكن يظل أسلوب (لحظة السقوط والاستعادة) مرهون بالرؤية أو الغرض الجمالي الذي يستخدم من أجله، وفي حكاية أم كلثوم يبدو أن مراد أراد أن ينطلق من هذه اللحظة العظيمة لسقوط سيدة الغناء على المسرح  الأهم والأشهر في العالم، لكي يعود ليحكي لنا عن كبوات أو سقطات مشابهة، تسبب بها رجال أخرين – وتحديدا الرجال- غير المعجب المخمور! وكيف استطاعت "الست" أن تنهض منها كما نهضت في نهاية الفيلم.

يعود الفيلم بأم كلثوم إلى محطات قصيرة من رحلتها المديدة، هائلة التفاصيل، ترتبط هذه العودة بعنصر أساسي متكرر ومحوري وهو علاقتها بالرجال، أو مجموعة من الرجال الذين انتقاهم السيناريو في مواقف معينة ليعكس فكرة صانعه، كل الرجال في حياة "الست" الخاصة بمراد هم مُعَوُقِيِن، أو مزعجين ومُتخلين أو أنانيين، الأب الذي آمن بها، أصابه الذهول حين رأها في حفل أحد الباشوات، وقد تحولت إلى فتاة كاملة الأنوثة، رغم تواضعها الشكلي، وفي الواقعة الشهيرة لتطاول أحد السكارى عليها بمسدسه، نراه يضربها، وظل يضربها كما جاء في الأرشيف الصوتي الذي تضمنه الفيلم بصوت أم كلثوم نفسها، وحين جلست معه في مشهد الشرفة حذرته من أن يمد يده عليها مرة أخرى، وإذ بشريط الصوت يصدح بسذاجة (أعطني حريتي أطلق يديا) وكأنها قررت في تلك اللحظة أن تتحرر من سلطان الأب، وكل الرجال من بعده! 

حتى أخوها خالد، الأقرب لها بعد أبيها، لم نره سوى في مشاهد قليلة، والمشهد الوحيد الذي نطق فيه! هو مواجهة ثقيلة الوطأة بسبب شكها في أسلوب إدارته لإيراداتها الضخمة من أراضيها! بينما كان الصحفي اللامع وقتها محمد التابعي يجلس مثل أي محرر فني هزيل، ينتظر في غرفتها، لكي يأخذ منها تصريح، ثم تمنحه مبلغاً من المال ليفتح مجلته الخاصة – كانت آخر ساعة عام 1944وقت المشهد قد مضى عليها 10 سنوات كاملة، والواقعة كلها تخص مصطفى أمين وليس التابعي، ولكن دعونا من الدقة التاريخية التي لا يلتفت إليها الكاتب! لنتوقف أمام عملية تقزيم الرجال الذين يلتفون حول القامة النسائية، التي ترفض حب أحمد رامي من أجل أن تستمر في الغناء، وتنتصر على النظرة الدونية للملكة نازلي بالغناء في الحفلة الكبيرة بعد أن تخلى عنها أخو الملكة شريف صبري وقتها. 

حتى الضابط، الذي يبلغها بحفل مجلس قيادة الثورة، يتعالى عليها بصوته العسكري ونفوذه الصارم لولا تدخل عبد الناصر – الذي على ما يبدو لم يجروء الفيلم أن يقزمه هو الآخر، وفي معركة كرسي النقابة التي كانت فكرة أم كلثوم نفسها، يتم التأكيد على أن الدعاية المضادة من الموسيقار عبد الوهاب كانت لمجرد أنها (ست)، وهي واقعة صحيحة، لكنها لم تكن السبب الوحيد، بل هو اجتزاء من أجل لي عنق التاريخ بغرض أقرب لتواجهات الصوابية السياسية في شيطنة الذكور، واعتبارها أن الرجل خصم يجب الانتصار عليه لصالح قوة المرأة.

صحيح أن السرد حاول في بعض المواضع أن يوازن بين هذه النظرة الدونية للرجال في محيط كوكب الشرق، كأن حافظ على علاقتها الأثيرة مع طيف أباها، الذي تغني له في الصالة كما كانت تفعل وقت أن كانت صغيرة! أو كتابة سطر عابر في مذاكرتها (وحشتني يا خالد)! إلا أن مجمل علاقات (الست) بالذكور في الفيلم بما فيهم زوجها الذي خشي على صحتها من تعب جولات المجهود حربي، مجمل هذه العلاقات في صالح تقزيمهم بشكل يكاد يبدو مغرض! 

الغريب أن أم كلثوم كما ذكرنا هي نتاج عصر من التفتح والليبرالية والتحرر الفكري والثقافي، ومحاولات التحرر السياسي والاقتصادي، لقد صعدت هذه السيدة على أيدي الرجال إلى القمة، تربت في الاقتصاد على يد طلعت حرب، وفي الموسيقى على يد درويش الحريري ومن بعده زكريا أحمد ثم رفعها رياض السنباطي إلى القمة وجاوز بها محمد عبد الوهاب نفسه السحاب، قدمها أحمد بدر خان ومحمد كريم لجمهور السينما، ومنحها الملك فاروق وسام الكمال الوحيد خارج العائلة المالكة، وبجلها جمال عبد الناصر محولاً إياها إلى أيقونة مقدسة!

اقرأ أيضاً

اقرأ أيضاً

بحضور أبرز نجومه.. عرض خاص لفيلم "الست" في الرياض

استضافت العاصمة السعودية الرياض العرض الخاص لفيلم السيرة الذاتية لأم كلثوم (الست) برعاية الهيئة العامة للترفيه (GEA)، و"موسم الرياض"، و"صندوق Big Time للأفلام".

عصر كامل من الرجال المتفتحين وفائقي النبوغ والمكانة صاغوا مصيرها، بداية من الأب وصولاً لأعلى سلطة في عصرين حقبتين مختلفتين! فهل يستحق الرجال في الفيلم أن يصبحوا مجرد عاشق خائب أو والد عنيف أو أخ عصبي أو حرامي وضيع أو شاعر مغدور أو ملحن مغرور أو عازف مغلوب على أمره، وهل سيجارة أم كلثوم وصوتها العريض القوي هما مجازات القوة والسيطرة والقدرة على النهوض والصعود!

إننا لا نذهب إلى.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من الشرق للأخبار

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من الشرق للأخبار

منذ 3 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ ساعة
منذ 51 دقيقة
منذ 6 ساعات
منذ 3 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ ساعتين
سي ان ان بالعربية منذ 16 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 6 ساعات
قناة العربية منذ 5 ساعات
صحيفة الشرق الأوسط منذ 15 دقيقة
قناة روسيا اليوم منذ 22 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات