أكد الخبير الاقتصادي مدحت الغدامسي أن المؤشرات الاقتصادية الرسمية، والتقارير الدولية، وعلى رأسها تقارير البنك الدولي، قد تكون صحيحة من الناحية النظرية والحسابية، لكنها لا تعكس الواقع الفعلي للاقتصاد الليبي، واصفًا هذه التقارير بأنها أقرب إلى محاولات تجميل للصورة الاقتصادية العامة، دون معالجة جوهر الاختلالات القائمة.
وأوضح الغدامسي، في مداخلة عبر قناة سلام ، رصدتها صحيفة الساعة 24، أن التعويل على معدلات نمو متوقعة خلال عامي 2024 و2025 لا يمكن اعتباره دليلاً على تعافٍ اقتصادي حقيقي، مشيرًا إلى أن نقطة التعافي الفعلية للاقتصاد الليبي، وخاصة في قطاع النفط، كانت عند بلوغ الإنتاج مستوى 1.6 مليون برميل يوميًا كما تحقق عام 2012، قبل أن تدخل البلاد بعد ذلك في دوامة من الإغلاقات والتراجعات، حالت دون العودة إلى هذا المستوى منذ عام 2014.
وأضاف أن احتساب النمو الاقتصادي استنادًا إلى توقعات مستقبلية قد يُظهر أرقامًا مرتفعة ظاهريًا، إلا أنها تبقى غير دقيقة عند قياس الأداء الحقيقي للاقتصاد الوطني، لا سيما عند النظر إلى الإيرادات بالدولار، وتأثيرات تقلبات سعر الصرف الرسمي للمصرف المركزي، خاصة بعد التعديلات التي أُجريت بين عامي 2015 و2016.
وفي السياق ذاته، أشار الغدامسي إلى أن الأرقام المتداولة بشأن الإيرادات والنفقات في الميزانية العامة تعاني قدرًا كبيرًا من التشويش، نتيجة العجز في الإيرادات، واللجوء إلى الإنفاق من الاحتياطيات، إلى جانب غموض تقييمات المصرف المركزي، وهو ما يجعل من الصعب رسم صورة دقيقة لمستوى النمو الاقتصادي الفعلي.
وأكد أن الاقتصاد الليبي لم يصل بعد إلى مرحلة التعافي التي يمكن القياس عليها بشكل موضوعي، سواء من حيث الاستثمار أو الإنتاجية، لافتًا إلى أن نسبة التضخم الرسمية تبلغ نحو 15%، وهو ما يجعل أي معدل نمو أقل أو قريب من هذا المستوى غير ذي أثر فعلي على القوة الشرائية، خاصة أن التضخم الحقيقي في السوق المحلي، عند قياسه بالأسعار الفعلية، يتجاوز 35%.
وشدد الغدامسي على أن الأرقام الرسمية، رغم سلامتها النظرية، تظل مضللة عند إسقاطها على الواقع المعيشي، مؤكدًا ضرورة الاعتماد على بيانات محلية دقيقة وواقعية لتقييم مسار التعافي والنمو الاقتصادي في ليبيا.
وتابع: ما يُروَّج له بشأن تحقيق نمو اقتصادي لم ينعكس على أرض الواقع، مشيرًا إلى وجود مشكلات هيكلية عميقة ما زالت تؤثر سلبًا على الأداء الاقتصادي. وأضاف أن ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة الأخيرة لم يُستثمر بشكل رشيد، بل أسهم في زيادة الإنفاق غير المبرر لدى الحكومتين، ما أدى إلى مزيد من الضبابية في السياسات النقدية والمالية.
كما لفت إلى وجود استخدام غير منسق لأدوات السياسة النقدية، يتصادم في كثير من الأحيان مع السياسات المالية، وهو ما يتجلى في الخلل القائم بين وزارتي الاقتصاد والمالية والمصرف المركزي، إلى جانب الدور السلبي الذي تلعبه المصارف التجارية، وتأثير أسعار الصرف والرسوم الضريبية على تراجع قيمة الدينار الليبي.
وأوضح أن هذه العوامل مجتمعة أضعفت القوة الشرائية للمواطن، مؤكدًا أنه لا توجد مؤشرات حقيقية على تحسن الوضع الاقتصادي في حياة المواطنين اليومية، رغم ما يُعلن من مشاريع اقتصادية وآليات قياس رسمية، قد تكون صحيحة من منظور المؤسسات الدولية، لكنها لا تعكس الواقع المحلي.
وفيما يتعلق بالوضع النقدي، أوضح الغدامسي أن المؤشرات الفعلية لسوق الصرف تعكس ضعف السياسات النقدية المتبعة، مشيرًا إلى أن أبسط مؤشر يمكن الاستناد إليه حاليًا هو سعر الصرف في السوق الموازية، والذي كان يفترض أن يكون أداة أساسية لدى المصرف المركزي ضمن سياسة نقدية منسقة مع السياسات المالية والتجارية والاجتماعية.
وقال إن المصرف المركزي كان ينبغي ألا يتجاوز هذه المسارات دون تنسيق مع الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارتي الاقتصاد والمالية، باعتبارهما مسؤولتين عن بقية السياسات الاقتصادية.
وأضاف أن سعر الصرف في السوق الموازية يعكس تراجع قيمة الدينار، حيث بلغ مؤخرًا نحو 7.54 دينار، قبل أن يرتفع إلى قرابة 8 دنانير، وهو ما يدل على ضعف فاعلية السياسات النقدية في دعم العملة الوطنية.
وتابع الغدامسي أن السياسات النقدية المفروضة كان من المفترض أن تُسهم في تقوية الدينار وتحسين القوة الشرائية للمواطن، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك، حيث بات المواطن يستنزف مدخراته ويعاني في تلبية احتياجاته اليومية، مؤكدًا أن هذه النتائج لا تنسجم مع التوصيات الواردة في تقارير البنك الدولي أو التقارير المماثلة الصادرة عن مؤسسات نقدية إقليمية.
وحول التقرير الاقتصادي الأخير، أوضح الغدامسي أن الاقتصاد الليبي يواجه تحديات هيكلية كبيرة تعيق النمو والاستقرار المالي، من بينها نقص السيولة، وارتفاع أسعار السلع، وصعوبة الحصول على العملة الصعبة، وعدم استقرار المنظومة المالية. وأضاف أن التقرير تناول الوضع بشكل عام، لكنه أغفل عددًا من التوصيات الجوهرية التي طُرحت منذ عام 2013 بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وبيّن أن هذه التوصيات شملت تحسين إدارة النقد، وتبويب الميزانية على أساس المشاريع، وتعزيز الرقابة المالية لضمان كفاءة الإنفاق، إلا أنها لم تُنفذ بشكل فعلي بسبب ضعف التنسيق بين وزارة التخطيط ووزارة المالية، وغياب الاستمرارية في تنفيذ خطط إدارة النقد.
ورأى الغدامسي، ضرورة إعداد ميزانية متوازنة دون عجز، بحيث يُخصص جزء محدود فقط لدعم المشاريع التنموية، مع إعادة غالبية الموارد للحكومة لإدارة الدولة بكفاءة. كما شدد على ضرورة الالتزام بما يُعرف بالشرط المالي لضبط الإنفاق بين أبواب الميزانية، مع الالتزام بنسبة تتراوح بين 17 و23% بين البابين الأول والثاني، ومنع تجاوز السقف المحدد للإنفاق.
كما دعا إلى الحفاظ على الاحتياطي النقدي، وتحسين إدارة العملات الأجنبية، بما يسهم في تعزيز القوة الشرائية للمواطن ورفع قيمة الدينار الليبي تدريجيًا، إلى جانب توسيع القروض الموجهة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة والقطاع الإنتاجي الوطني، بما يرفع مساهمة الاستثمار في الناتج المحلي من مستوياتها المتدنية إلى نحو 20%.
وفي ختام مداخلته، لفت الغدامسي إلى وجود إشكالية كبيرة في إدارة المصرف المركزي، معتبرًا أن بعض السياسات الحالية تتجه نحو تسوية الحسابات الداخلية ورفع الرسوم على العملات الأجنبية، وهو ما يتعارض مع دعم الاقتصاد الوطني وتحسين معيشة المواطنين. كما أشار إلى أن حجم الدين العام تجاوز 200 مليار دينار، مؤكدًا أن معالجته وإعادة هيكلة الحسابات المالية تمثل شرطًا أساسيًا لتحقيق تعافٍ اقتصادي مستدام، داعيًا في هذا السياق المراكز البحثية والجامعات إلى دراسة هذه الحلول والعمل على تفعيلها عمليًا.
هذا المحتوى مقدم من الساعة 24 - ليبيا
