المقدمة
يشهد النظام البحري العالمي اليوم تحولا هادئا ولكنه عميق، تغذّيه ثلاثة عناصر متشابكة: تسارع ذوبان الجليد في القطب الشمالي، البحث عن تقليص زمن عبور السلع بين آسيا وأوروبا، وتزايد الوزن الجيوسياسي للممرات البحرية في رسم خرائط النفوذ الاقتصادي. في هذا السياق، برز ما يُسمّى بـ«الممر القطبي الشمالي» كطريق بحري جديد يربط الموانئ الصينية بموانئ شمال أوروبا عبر السواحل الروسية، في زمن عبور أقصر بكثير مقارنة بمسار قناة السويس التقليدي.
رحلة السفينة الصينية «Istanbul Bridge» عبر الممر القطبي، والتي اختزلت المسافة بين ميناء نينغبو-تشوشان وموانئ بريطانيا وألمانيا وبولندا وهولندا في حوالي 26 يوما بدلا من 40 إلى 50 يوما عبر قناة السويس، اعتُبرت منعطفا تاريخيا في النقل البحري، ليس فقط لأنها أثبتت جدوى الطريق القطبي اقتصاديا ضمن شروط معينة، بل لأنها وجّهت رسالة قوية مفادها أن احتكار قناة السويس لحركة الحاويات بين آسيا وأوروبا لم يعد مطلقا كما كان طوال قرن ونصف.
غير أن هذا التحول لا يهم مصر وحدها. فكل إعادة توزيع لمسارات التجارة البحرية العالمية تمتد آثارها إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ومنه إلى موانئ المغرب التي تشكل اليوم أحد أهم العقد اللوجستيكية في جنوب هذا الحوض، وفي مقدمتها ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح ضمن أكبر عشرين ميناء للحاويات في العالم.
هذا المقال يحاول تفكيك أبعاد المنافسة بين الممر القطبي الشمالي وقناة السويس، ثم يوسّع زاوية الرؤية ليحلّل، من منظور مغربي، كيف يمكن أن تتحول هذه التحولات إلى تهديد لتنافسية الموانئ المتوسطية، أو إلى فرصة تاريخية لتعزيز تموقع طنجة المتوسط وباقي الموانئ المغربية في سلاسل الإمداد العالمية.
1. الممر القطبي الشمالي : بين إغراء السرعة وحدود الواقعية
1.1 من اختزال الزمن والمسافة إلى إغراء «الطريق السريع» بين الصين وأوروبا
تُقدَّم فكرة «Arctic Express» في الخطاب التسويقي لبعض الفاعلين العالميين كأنها طريق بحري فائق السرعة يربط الصين بأوروبا الشمالية، يقلّص زمن الرحلة البحرية من حوالي 45 يوما إلى قرابة 20–26 يوما، ويختصر المسافة من نحو 11 ألف ميل بحري إلى أقل من 7,500 ميل عبر ما يعرف بالممر البحري الشمالي على طول السواحل الروسية.
في ظاهر الأمر، تبدو المعادلة مغرية جدا لشركات الملاحة ولأصحاب السلع. تقليص زمن العبور يعني تسريع دوران رأس المال، وتقليص المسافة يعني خفض استهلاك الوقود والحد من بعض التكاليف التشغيلية المباشرة. تشير التقديرات الاقتصادية إلى أن سفينة حاويات متوسطة الحجم، بتكلفة تشغيل يومية في حدود 25 إلى 30 ألف دولار، يمكن أن تحقق وفورات تناهز نصف مليون دولار في الرحلة الواحدة عند استبدال مسار قناة السويس بمسار الممر القطبي الشمالي، إذا تم افتراض ثبات باقي الشروط.
هذه الأرقام تفسر الاهتمام المتزايد للمستثمرين والسلطات المينائية، وتفسر أيضا الحضور المتنامي لخطاب يعتبر أن جزءا من حركة الحاويات بين شرق آسيا وشمال أوروبا قد يجد في الطريق القطبي بديلا تنافسيا، خصوصا للحمولات عالية القيمة والزمنية الحساسية، مثل الإلكترونيات والسلع الموسمية المرتبطة بالتجارة الإلكترونية والطلب السريع.
لكن الإغراء بالأرقام لا يكفي وحده لصنع طريق تجاري مستدام. فالعنصر الحاسم في سلاسل الإمداد ليس السرعة في حد ذاتها، بل القدرة على جعل هذه السرعة قابلة للتنبؤ والاستدامة ضمن أفق زمني طويل، وهو ما يجعل الصورة أكثر تعقيدا.
1.2 طريق موسمي محفوف بالمخاطر وتحت هيمنة جيوسياسية
التحليل المتأنّي لتجربة «Arctic Express» يكشف أن الطريق القطبي لا يزال بعيدا عن أن يتحول إلى «أوتوروت» بحرية مستقرة. فالممر الشمالي مسار موسمي بامتياز، قابل لأن يتأثر بشدة بظروف الطقس، وحركة الجليد، وحاجة السفن إلى مرافقة كاسحات الجليد في كثير من المقاطع، فضلا عن محدودية البنية التحتية الساحلية في مجالات استقبال السفن والإغاثة والتجهيزات التقنية.
إلى جانب ذلك، تظهر تكاليف خفية لا تظهر في العروض التسويقية الأولى، من بينها ارتفاع أقساط التأمين البحري نتيجة المخاطر البيئية والملاحية، ورسوم العبور والتصاريح المرتبطة بالسلطات الروسية المشرفة على الممر، وتكاليف تجهيز السفن وفق معايير الملاحة في المناطق الباردة واحترام مدونة الملاحة القطبية.
ثم إن البعد الجيوسياسي للممر لا يمكن إغفاله. فالطريق يمر أساسا داخل فضاء نفوذ روسي مباشر، في سياق دولي يتسم بتوترات متجددة بين روسيا وعدد من القوى الغربية. وهذا يجعل الاعتماد المفرط على هذا المسار محفوفا بمخاطر سياسية وتنظيمية يصعب التنبؤ بها، سواء في شكل عقوبات، أو تغييرات تنظيمية، أو قيود مفاجئة على الوصول إلى الممر.
وأخيرا، هناك سؤال بيئي بالغ الحساسية. فالممر القطبي يمر في نظام إيكولوجي هش، وأي حادث أو تسرّب أو تزايد مكثف في حركة السفن يمكن أن يخلّف آثارا بيئية عميقة في منطقة تعتبر «رئة مناخية» للكوكب. هذا البعد البيئي يضع الطريق القطبي في قلب جدل بين من يراه مختبرا للابتكار في النقل البحري منخفض الكربون، ومن يعتبره مخاطرة غير محسوبة في منطقة ينبغي حمايتها قبل استغلالها.
بناء على هذه المعطيات، يبدو أن الطريق القطبي في صيغته الحالية قادر على لعب دور «خيار تكميلي» موجه لجزء محدود من الحمولات ذات القيمة العالية والحساسية الزمنية، أكثر مما هو بديل شامل لمسار قناة السويس.
2. قناة السويس بين ضغط المنافسة القطبية وحتمية إعادة التموضع الاستراتيجي
2.1 قناة السويس: ركيزة للتجارة العالمية وعمود فقري للاقتصاد المصري
قناة السويس ليست مجرد ممر مائي، بل هي مؤسسة اقتصادية وجيوسياسية ذات وزن عالمي. الأرقام الرسمية الصادرة عن هيئة قناة السويس تبيّن أن القناة تمكّنت في السنوات الأخيرة من تحقيق إيرادات سنوية تقارب 9,4 مليارات دولار خلال السنة المالية 2022/2023، مع نمو يفوق 34 في المائة مقارنة بالسنة السابقة، واستقبال ما يقرب من 25,900 سفينة وحمولة تناهز 1,5 مليار طن سنويا.
فضلا عن ذلك، تساهم عائدات القناة في تقليص عجز ميزان المدفوعات المصري وتحسين احتياطات النقد الأجنبي، كما تشكل مصدرا رئيسيا لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية في المناطق المحيطة، من مدن قناة السويس إلى المناطق الصناعية والخدماتية المرتبطة بها.
على المستوى العالمي، تمر عبر قناة السويس نحو 12 في المائة من التجارة البحرية العالمية، وتكاد القناة تحتكر حركة الحاويات بين شرق آسيا وشمال أوروبا، ما يمنحها صفة «عنق زجاجة» إستراتيجي في سلاسل الإمداد العالمية. أي اضطراب أو إعادة توزيع لحركة السفن بعيدا عنها ينعكس مباشرة على تكاليف النقل وأسعار السلع ومعدلات التضخم في عدد من الاقتصادات الكبرى.
2.2 من احتكار المسار إلى منافسة محدودة: تغير ميزان القوة التفاوضية
دخول الممر القطبي الشمالي على خط المنافسة لا يعني، في الأمد المنظور، إزاحة قناة السويس، لكنه يعني عمليا نهاية وضعية «الاحتكار المطلق» التي تمتعت بها القناة في ما يتعلق بالربط البحري بين آسيا وأوروبا.
السيناريوهات الاقتصادية المتداولة تشير إلى أن الطريق القطبي، في أحسن الأحوال، قد يستقطب ما بين 5 إلى 15 في المائة من حركة الحاويات بين شمال شرق آسيا وشمال أوروبا في أفق عشر سنوات، مع بقاء 85 إلى 95 في المائة من هذه الحركة عبر قناة السويس. غير أن الأثر الحقيقي يظهر ليس فقط في مستوى الحصة السوقية، بل في طبيعة العلاقة التفاوضية بين هيئة القناة وشركات الملاحة.
وجود بديل، ولو كان موسميا ومحدود القدرة الاستيعابية، يمنح كبريات شركات الملاحة العالمية ورقة ضغط إضافية في مفاوضات الرسوم والشروط، بحيث يمكن أن تدفع في اتجاه تخفيضات على رسوم العبور، أو اعتماد تسعير أكثر مرونة، أو الحصول على امتيازات خاصة مقابل التزامها بالحفاظ على حجم معين من الحركة عبر القناة.
في مواجهة هذا الواقع الجديد، يبرز اتجاه استراتيجي يدعو إلى أن تتحول قناة السويس من مجرد «محصّل رسوم عبور» إلى منصة لوجستيكية متكاملة تقدم خدمات ذات قيمة مضافة، من إصلاح السفن وتزويدها بالوقود والتموين، إلى إنشاء مراكز توزيع وتخزين وخدمات رقمية متقدمة لسلاسل.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من هسبريس
