طوال سنوات اتبعت الولايات المتحدة سياسة دقيقة في التعامل مع تايوان تضمن دعم الجزيرة والحفاظ على مصالحها من ناحية وتهدئة الصين من ناحية أخرى تُعرف بـ "سياسة التحيّز الاستراتيجي".. فما هي؟

لطالما شكّلت تايوان محور اهتمام واشنطن الاستراتيجي في آسيا، حيث تعتمد الولايات المتحدة على سياسة دقيقة توازن بين دعم الجزيرة وحماية مصالحها الإقليمية فيما يثعرف بـ "سياسة التحيّز الاستراتيجي". هذه السياسة، التي تحافظ على قدر من الغموض، تمثل أداة رئيسية لتوجيه التحركات الأمريكية في المنطقة دون الكشف عن تفاصيل الالتزامات العسكرية أو السياسية، ما يجعلها في قلب نقاش مستمر حول فعاليتها ومستقبلها في ظل تصاعد التوترات الإقليمية.

التحيّز الاستراتيجي الأمريكي تجاه تايوان

تتبع الولايات المتحدة سياسة يُطلق عليها "الغموض الاستراتيجي" تجاه تايوان، تهدف إلى موازنة دعم الجزيرة مع تجنب استفزاز الصين بشكل مباشر. ورغم تصريحات الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن خلال فترة رئاسته والتي أوحت بأن واشنطن ستدافع عن تايوان في حال غزوها، يظل النهج الأمريكي قائمًا على عدم الإفصاح الصريح عن حجم التدخل العسكري المحتمل، بهدف منع أي تصعيد غير محسوب.

ويعود أصل هذه السياسة إلى أعقاب الحرب الأهلية الصينية، حين فرّ القوميون إلى تايوان عام 1949 وأسّسوا حكومة منفصلة، فيما اعتبرت بكين نفسها الممثل الشرعي للصين بأكملها. ومع مرور الوقت، اعترفت أغلب الدول، بما فيها الولايات المتحدة، بالحكومة الشيوعية في بكين، لكن واشنطن حافظت على علاقات عسكرية ودبلوماسية محدودة مع تايوان، أبرزها قانون يفرض بيع الأسلحة للجزيرة لضمان قدرتها على الدفاع عن نفسها.

كيف تحمي أمريكا تايوان؟

تعتمد الولايات المتحدة في حماية تايوان حاليًا على تعزيز قدراتها العسكرية بشكل مكثف، عبر مبيعات أسلحة نوعية ومساعدات دفاعية مباشرة تهدف إلى رفع كلفة أي هجوم صيني محتمل. فمنذ عام 1950، باعت واشنطن لتايبيه معدات وخدمات عسكرية تُقدّر بنحو 50 مليار دولار، فيما تنتظر تايوان تسلّم شحنات أسلحة أمريكية تتجاوز قيمتها 20 مليار دولار، تشمل 66 طائرة مقاتلة من طراز F-16V، وأكثر من 100 دبابة أبرامز، وأنظمة دفاع جوي متطورة أبرزها صواريخ باتريوت.

كما وافقت الولايات المتحدة على تزويد الجزيرة بأسلحة عالية الحركة والفعالية مثل أنظمة HIMARS الصاروخية، وصواريخ هاربون المضادة للسفن، وصواريخ ستينغر وجافلين، إلى جانب طائرات مسيّرة من طراز MQ-9 ريبر.

الغموض الأمريكي.. منع للحرب أم تشجيع لها؟

يترك الغموض الاستراتيجي الأمر في حالة ترقب مستمر، فمن ناحيتها، لا تستطيع بكين التأكد من أن أي محاولة لغزو تايوان ستقابل برد عسكري أمريكي مباشر، كما أن تايوان نفسها لا تستطيع إعلان استقلالها رسميًا دون ضمان حماية واشنطن. وساعدت هذه السياسة لعقود على منع تصعيد النزاع، لكنها تواجه اليوم تحديات جديدة مع صعود قوة الصين العسكرية وتصاعد الضغوط الداخلية على الرئيس شي جين بينغ لضم الجزيرة.

وشهدت السنوات الأخيرة تكثيفًا ملحوظًا للمناورات العسكرية الصينية، بما في ذلك محاكاة الغزو وتحليق الطائرات المقاتلة والقاذفات داخل منطقة الدفاع الجوي التايوانية بشكل روتيني. ولعقود، لم يكن من المتوقع أن تمتلك الصين القدرة على غزو الجزيرة برمائيًا، لكن المسؤولين التايوانيين يبدون الآن قلقهم من أن هذا السيناريو أصبح ممكنًا قريبًا.

ويتواصل النقاش بين الخبراء حول ما إذا كان من الأفضل الحفاظ على هذا الغموض أو الانتقال إلى "وضوح استراتيجي"، يُوضح فيه موقف واشنطن العسكري، مع الإبقاء على موقفها السياسي المحايد تجاه مستقبل تايوان.

الأهمية الاستراتيجية لتايوان

لا يمكن التقليل من الدور الحيوي الذي تلعبه تايوان في آسيا والمحيط الهادئ، فهي تقع على مفترق طرق التجارة العالمية وتمثل نقطة جذب تاريخية للقوى الكبرى. ومن جهة أخرى، تعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، وتصر على ضمها بحلول الذكرى المئوية للحزب الشيوعي عام 2049. وردًا على أي خطوات تراها استفزازية، أجرت بكين مناورات عسكرية بالذخيرة الحية وتجارب صاروخية، وفرضت عقوبات اقتصادية على صادرات واستيرادات محددة من وإلى الجزيرة، مع تكثيف الطائرات العسكرية الصينية دخولها منطقة الدفاع الجوي التايوانية.

من جانبها، ركّزت تايوان على تعزيز اقتصادها الذي يهيمن عليه قطاع التقنية المتقدمة، خصوصًا أشباه الموصلات، مع الحفاظ على تحالفات أمنية قوية مع الولايات المتحدة، التي تبيعها أسلحة متطورة مثل طائرات إف-16، وأنظمة الدفاع الصاروخي باتريوت، ودبابات أبرامز، إلى جانب تعزيز وجودها البحري في مضيق تايوان. في المقابل، طوّرت الصين أسطولها البحري وقدراتها على منع الوصول إلى المنطقة، بما في ذلك صواريخ باليستية وصواريخ كروز وأنظمة رادار متقدمة، ما يجعل النزاع محاطًا بحساسية قصوى.

ويمتد تأثير التوترات إلى دول جنوب شرق آسيا واليابان، التي توازن بين الاعتماد التجاري على الصين والحماية الأمنية عبر التحالف مع واشنطن. ويظهر النزاع في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي كعامل حاسم في الأمن الإقليمي واستقرار سلاسل التوريد العالمية، ما يجعل أي تصعيد محتمل تهديدًا لا للمكان فحسب، بل للنظام الدولي ككل.

هل تغيّر النهج الأمريكي تجاه تايوان؟

كررت واشنطن خلال السنوات القليلة الماضية دعمها للجزيرة في ظل تصاعد التوترات مع الصين، لكن دون الإفصاح الصريح عن حجم تدخلها العسكري المحتمل، وهو جوهر سياسة الغموض الاستراتيجي التي تحدد مسار العلاقات الأمريكية الصينية التايوانية منذ عقود.

وأثار الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، جدلًا حينما قال خلال عهده إن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان في حال تعرضت لهجوم صيني، قبل أن يوضح البيت الأبيض أن هذا لا يشكل تغييرًا رسميًا في السياسة. ويرى الخبراء أن الإدارة الأمريكية تميل إلى تشديد الدعم للجزيرة، عبر تعزيز التعاون العسكري، وتدريب القوات التايوانية، وبيع أسلحة متطورة، مع الحفاظ على عدم الاعتراف بتايوان كدولة مستقلة رسميًا، وهو ما يُبقي بكين في حالة ترقب.

ويقول محللون إن تصريحات بايدن وبلينكن - آنذاك - مثّلت تحولًا في النبرة أكثر من المضمون، فهي إشارة للصينيين على استعداد واشنطن للرد على أي تصعيد، دون تجاوز الخط الأحمر للسيادة. ومع استمرار هذه السياسة، يبدو أن الولايات المتحدة تحاول تحديث إطار الغموض الاستراتيجي ليواكب الوضع الجيوسياسي الراهن، موازنةً بين دعم تايوان، وحفظ استقرار المنطقة، وتجنب الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع بكين.

مخاطر الانتقال من الغموض إلى الوضوح

جعلت القوة العسكرية والاقتصادية المتنامية لبكين، إلى جانب تصاعد نزعتها العدوانية في المنطقة، بعض المحللين يشككون في فعالية نهج الغموض الاستراتيجي الأمريكي تجاه تايوان. وبحسب رؤيتهم، فإن الوضوح الاستراتيجي يعني إعلان التزام أمريكي صريح بالدفاع عن تايوان، وتحديد الخطوط الحمراء التي ستستدعي ردًا عسكريًا.

ويقول الخبراء إن هذا الخيار قد يزيد من مصداقية الردع، لكنه يحمل مخاطر جسيمة ومنها سهولة تعرّف القادة الصينيين مسبقًا حدود التحرك التي ستؤدي إلى مواجهة أمريكية، ما قد يدفعهم إلى اختبار الحدود بشكل متكرر أو إلى تصعيد سريع. كما أن الالتزام الصريح سيُلزم واشنطن بالمشاركة المباشرة في أي صراع محتمل، بما في ذلك عمليات عسكرية مكلفة وربما غير شعبية، وهو ما قد يقلل ثقة الحلفاء فيها، بينما قد تغري هذه السياسة تايوان باتخاذ خطوات استقلالية محفوفة بالمخاطر.

ويواجه صانعو القرار الأميركيون معضلة حقيقية تتمثل في التوازن بين تعزيز الردع عبر الوضوح، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي بتبني الغموض. ويحمل كل خيار تبعات استراتيجية وجيوسياسية، بينما ستحدد قدرة الولايات المتحدة على الموازنة بين الردع ومنع التصعيد، مسار العلاقة مع الصين ومستقبل تايوان في السنوات القادمة.

اقرا أيضًا:

درع السيليكون التايواني.. حارس يحمي جزيرة الرقائق من الصين

سياسة الصين الواحدة.. عماد الخلاف مع تايوان المؤرق لأمريكا

جذور الصراع بين الصين وتايوان.. الحرب الأهلية ونقطة الانفصال


هذا المحتوى مقدم من العلم

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من العلم

منذ 6 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 5 ساعات
منذ ساعة
منذ 9 ساعات
منذ ساعتين
سي ان ان بالعربية - سياحة منذ 11 ساعة
سي ان ان بالعربية - منوعات منذ 11 ساعة
بيلبورد عربية منذ ساعتين
موقع سائح منذ 6 ساعات
العلم منذ 16 دقيقة
موقع سائح منذ 5 ساعات
سي ان ان بالعربية - منوعات منذ 11 ساعة
بيلبورد عربية منذ ساعتين