ينظر الغرب إلى درع السيليكون التايواني كحائط تقني يمثّل الضمانة الأمنية الأبرز التي تحول دون اندلاع مواجهة عسكرية شاملة مع الصين في واحدة من أكثر مناطق العالم سخونة.
ما هو درع السيليكون التايواني؟
تهيمن تايوان حاليًا على صناعة أشباه الموصلات بقوة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الصناعة الحديث، حيث تنتج الجزيرة وحدها ما يقرب من 60% من إجمالي الإنتاج العالمي للشرائح الإلكترونية.
تكمن القوة الحقيقية التي تمنح درع السيليكون التايواني حصانته في الاستحواذ على نسبة مذهلة تصل إلى 92% من إنتاج الرقائق الأكثر تقدمًا في العالم، وهي تلك التي يقل حجمها عن 5 نانومتر وتدخل في صناعة الهواتف الذكية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والعتاد العسكري المتطور.
وتمثّل هذه الهيمنة أكثر من مجرد تفوق تجاري، بل هي ورقة ضغط سيادية تجعل من تايوان "الرئة التقنية" التي يتنفس من خلالها الكوكب بأسره، وبدونها تتوقف المصانع في واشنطن وبكين على حد سواء.
وتلعب شركة "TSMC" التايوانية الدور المحوري في تثبيت أركان هذا الدرع، فمنذ تأسيسها في ثمانينيات القرن الماضي بدعم حكومي ورؤية استراتيجية، تحولت إلى "المقدس التقني" الذي لا يمكن المساس به.
وتقوم فلسفة الردع هنا على مبدأ بسيط، وهو أنه إذا تعرضت تايوان لغزو عسكري، فإن سلاسل التوريد العالمية ستنهار في غضون أيام، مما سيؤدي إلى خسارة اقتصادية عالمية تقدر بنحو 10 تريليونات دولار.
يتجاوز هذا الرقم الفلكي ميزانيات الحروب التقليدية، ويجعل من درع السيليكون التايواني قوة ردع ناعمة تجبر القوى الكبرى على التفكير آلاف المرات قبل الإقدام على أي خطوة متهورة قد تنهي الحضارة الرقمية كما نعرفها اليوم.
تحديات درع السيليكون التايواني أمام بكين
تسعى الصين جاهدة منذ سنوات لكسر هذه التبعية التقنية عبر ضخ استثمارات هائلة ضمن استراتيجية "صنع في الصين 2025"، إلا أن الوصول إلى جوهر درع السيليكون التايواني أثبت أنه أصعب مما تصوره قادة الحزب الشيوعي في بكين.
ورغم نجاح الصين في الاستحواذ على حصة كبيرة من سوق الشرائح الأقل تعقيدًا، إلا أنها لا تزال متعثرة في إنتاج الشرائح فائقة الدقة التي تحتكرها تايوان.
ولا تتعلق الفجوة التقنية هنا بالمال فقط، بل بنظام بيئي متكامل من الخبرات الهندسية، وبراءات الاختراع، والآلات الهولندية والأمريكية التي يُحظر تصديرها للصين، مما يبقي الجزيرة متفوقة بجيليْن على الأقل في مضمار السباق التقني.
وعلاوة على ذلك، يدرك صناع القرار في بكين أن غزو تايوان لا يعني بالضرورة الاستيلاء على مصانع الرقائق وهي تعمل؛ فالتقنية التايوانية تعتمد على تعاون دولي وثيق، وأي هجوم عسكري سيؤدي فورًا إلى توقف الدعم الفني وقطع قطع الغيار، مما يحول هذه المصانع المتطورة إلى مجرد كتل صخرية من السيليكون لا نفع منها.
ومن هنا، يبرز درع السيليكون التايواني كعائق استراتيجي أمام "حلم التوحيد" الصيني، حيث يخشى القادة في بكين أن يؤدي الضم بالقوة إلى عزل الصين تقنيًا لعقود، مما يقوض طموحاتها في أن تصبح القوة العظمى الأولى في العالم بحلول منتصف القرن الحالي.
استراتيجية أمريكا فيما يخص الرقائق التايوانية
تعتبر الولايات المتحدة حماية تايوان مسألة أمن قومي تقني، حيث عززت واشنطن علاقاتها مع تايبيه لضمان استمرار تدفق الرقائق إلى شركاتها الكبرى مثل "آبل" و"إنفيديا".
ومع ذلك، بدأت الإدارة الأمريكية في ممارسة نوع من "توزيع المخاطر" عبر إقناع الشركات التايوانية ببناء مصانع على الأراضي الأمريكية، كما يحدث في ولاية أريزونا.
ويخشى البعض في تايوان أن يؤدي هذا التوجه إلى إضعاف درع السيليكون التايواني؛ فبمجرد أن تمتلك أمريكا بدائل لإنتاج الرقائق المتقدمة محليًا، قد تتراجع دوافعها العسكرية للدفاع عن الجزيرة في حال وقوع هجوم صيني، وهو ما تصفه الصحافة التايوانية أحيانًا بـ "إفراغ الدرع".
وتؤكد الحكومة التايوانية أن "القلب النابض" للتقنية والبحث والتطوير سيظل دائمًا داخل حدود الجزيرة، لضمان بقاء درع السيليكون التايواني فعالًا كأداة للردع.
ومن الواضح أن واشنطن تستخدم هذا الملف كورقة ضغط في حربها التجارية مع الصين، حيث تمنع بكين من الوصول إلى التقنيات التايوانية المتطورة بينما تفتح أبوابها للتعاون العسكري الوثيق مع تايبيه.
جعل هذا التشابك بين التقنية والسياسة الدفاعية من الجزيرة الصغيرة محورًا تدور حوله استراتيجيات القوى العظمى، حيث لم تعد السيادة مجرد حدود جغرافية، بل أصبحت تقاس بعدد الترانزستورات التي يمكن دمجها في شريحة واحدة.
مستقبل درع السيليكون التايواني
تشير التقارير الاقتصادية أن الصين، رغم تهديداتها المستمرة، تظل الشريك التجاري الأكبر لتايوان، وتعتمد مصانعها بشكل حيوي على الرقائق المستوردة من الجزيرة.
يضيف هذا الاعتماد المتبادل طبقة أخرى من الحماية لمفهوم درع السيليكون التايواني، فبكين التي تصدر ملايين الهواتف والأجهزة للعالم سيتوقف اقتصادها تمامًا إذا انقطعت إمدادات تايبيه.
وتعد هذه "المصلحة المشتركة" في استمرار الإنتاج هي الكابح الأقوى حتى الآن لأي مغامرة عسكرية صينية، حيث يدرك الجميع أن ثمن الحرب سيكون تدمير الذات لجميع الأطراف المشتركة في النزاع بين بكين وتايبيه، بمن في ذلك المهاجم نفسه.
ومن ناحية أخرى، تعمل تايوان على تطوير ما تسميه "الدرع 2.0"، وهو التوسع العالمي لشركاتها في اليابان وألمانيا، لربط مصالح هذه القوى الدولية الكبرى ببقاء تايوان آمنة، فإذا كانت ألمانيا واليابان تعتمدان على مصانع تايوانية على أراضيهما تعمل بالتكامل مع مراكز الأبحاث في تايبيه، فإن هذه الدول ستصبح تلقائيًا جزءًا من منظومة الدفاع عن درع السيليكون التايواني.
مخاطر التآكل في درع السيليكون التايواني
يواجه هذا الدرع مخاطر حقيقية مع تزايد وتيرة "القومية التقنية" حول العالم، حيث تسعى كل قوة كبرى لبناء قدراتها الذاتية في مجال الرقائق لتقليل الاعتماد على مضيق تايوان.
وقد تضعف محاولات "توطين" الصناعة في أوروبا والولايات المتحدة والصين تضعف بمرور الوقت من حصانة درع السيليكون التايواني، إذ لم يعد العالم يحتمل وضع كل بيضه التقني في سلة واحدة مهددة بالانفجار.
وإذا نجحت هذه الدول في بناء بدائل حقيقية خلال العقد القادم، فإن قيمة الردع التي توفرها تايوان ستتراجع، مما قد يفتح الباب أمام بكين لتنفيذ خطط الضم بتكلفة اقتصادية أقل وطأة مما هي عليه الآن.
تكلفة الانهيار في حال فشل درع السيليكون التايواني
تتوقع دراسات اقتصادية حديثة أن يؤدي أي صراع مسلح يعطل عمل درع السيليكون التايواني إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تقارب 3% في السنة الأولى.
وبالنسبة لتايوان، فإن الحرب تعني دمارًا شاملًا لبنيتها التحتية الصناعية وخسارة قد تصل إلى 40% من اقتصادها، بينما ستواجه الصين انكماشًا اقتصاديًا حادًا قد يهدد الاستقرار الداخلي للحزب الحاكم.
ويبقى درع السيليكون التايواني المثال الأبرز في العصر الحديث على تحول التجارة والتقنية إلى أدوات دفاعية تتفوق أحيانًا على الصواريخ والطائرات.
هذا المحتوى مقدم من العلم
