كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الحضور المتنامي والمتجذّر لجماعة الإخوان المسلمين داخل عدد من الدول الأوروبية. وهو حديث لم يأتِ من فراغ، بل ارتبط أساسًا بسلسلة من التقارير والدراسات الرسمية والأمنية، التي حذّرت من تداعيات هذا الحضور على المجتمعات الأوروبية، وعلى تماسكها القيمي والمؤسساتي.وقد اكتسب هذا النقاش بعدًا أكثر جدية واتساعًا مع تزايد المؤشرات التي تفيد بأنّ الجماعة لا تكتفي بنشاط دعوي أو اجتماعي محدود داخل القارة العجوز، بل تعمل وفق استراتيجيات طويلة الأمد، تستهدف التأثير في الفضاءات السياسية، والتعليمية، والإعلامية، مستفيدة من مناخ الحريات العامة، وأحيانًا من تساهل الأطر القانونية والديمقراطية في عدد من الدول الأوروبية.خيار إستراتيجي مدروس
ولعلّ التقرير الصادر عن وزارة الداخلية الفرنسية في مايو الماضي، يُعدّ من أبرز الوثائق الأوروبية في هذا السياق، إذ حذّر بشكل مباشر من المخاطر التي تشكّلها بعض شبكات "الإخوان" على الدولة الفرنسية، وعلى القيم الجمهورية، وعلى مبدأ العلمانية. واعتبر التقرير أنّ هذه الشبكات تعتمد خطابًا مزدوجًا: ظاهره الالتزام بالقوانين والاندماج في المجتمع، وباطنه العمل على بناء هياكل موازية تهدف إلى التأثير المجتمعي والسياسي على المدى البعيد.أولًا: من اللجوء السياسي إلى التمركز المنظّملا يمكن اختزال وجود جماعة "الإخوان" في أوروبا ضمن إطار واحد أو نموذج موحّد، إذ يتّسم هذا الوجود بالاتساع والتشعّب، ويتوزّع بين مؤسسات تجارية، وجمعيات خيرية، وهيئات تعليمية، ومراكز ثقافية، ومؤسسات دينية. ويعود تشكّل هذا الحضور المنظّم إلى ستينيات القرن الماضي، قبل أن يشهد توسعًا مطّردًا خلال مراحل لاحقة، وخصوصًا في الفترات التي تعرّضت فيها الجماعة للحظر أو التضييق في عدد من الدول العربية، بعد محاولاتها العبث بأمنها واستقرارها.
في بداياته، اتّخذ هذا التوجّه نحو أوروبا طابعًا بدا طبيعيًا، عبر بوابة اللجوء السياسي. فقد وفّرت بعض الدول الأوروبية الحماية القانونية لعدد من قيادات "الإخوان" الملاحقين سياسيًا أو أمنيًا في بلدانهم، بدافع إنساني قائم على الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، وتأمين مظلّة قانونية لأفراد وجماعات صُنّفت آنذاك كـ"مضطهدة سياسيًا".
غير أنّ هذا الواقع بدأ يتغيّر تدريجيًا. فمع استقرار عدد كبير من قيادات وأنصار الجماعة في أوروبا، ووجود جاليات مسلمة واسعة لا تحمل بالضرورة أيديولوجيات سياسية أو تنظيمية، ومع ما وفّرته البيئة الأوروبية من هامش حرية واسع، وحرية حركة، وقوانين متساهلة نسبيًا في ما يتعلق بحرية التعبير وعمل الجمعيات، وغياب رقابة فاعلة على التمويل والخطاب، تحوّل هذا الوجود من حالة لجوء إلى خيار إستراتيجي مدروس.ثانيًا: أوروبا كمنصة إعادة تموضع بعد سقوط مشروع الإسلام السياسيفي ظل هذه المعطيات، وجدت جماعة "الإخوان" في أوروبا، كل ما يلزم لبناء بيئة حاضنة ومستقرة: إطار قانوني حامٍ، فضاء ديمقراطي مفتوح، جاليات قابلة للتأثير، ومؤسسات يمكن اختراقها أو توظيفها على المدى الطويل. وهكذا، لم تعد أوروبا مجرد مساحة هروب موقت، بل تحوّلت إلى فضاء حماية قانونية واستقرار تنظيمي، ومركز لإعادة التموضع، وإدارة الشبكات، وصياغة الخطاب، والتأثير غير المباشر في السياسات والمجتمعات.القارة العجوز مركز عالمي للإخوان
صحيح أنّ الدول العربية كانت حتى وقت قريب المسرح الأساسي لعمل جماعة "الإخوان"، إلا أنّ النقلة النوعية التي شهدتها الهجرة الإخوانية والانفلاش التنظيمي في أوروبا، حوّلت القارة العجوز إلى مركز عالمي للجماعة، وليس فقط ساحة إقليمية. وقد ذهب عدد من الباحثين والمراقبين إلى اعتبار لندن العاصمة غير المعلنة لجماعة "الإخوان،" ليس فقط بسبب مرونة الإطار القانوني، بل أيضًا لما توفره من ثقل إعلامي دولي، وتشابك مالي ومؤسساتي، وقدرة عالية على إدارة الشبكات العابرة للحدود وصياغة الخطاب الموجّه للرأي العام الغربي.
لكن ومع اندلاع ما سُمّي بـ«ثورات الربيع العربي»، وسقوط مشروع الإسلام السياسي في عدد من الدول العربية، وخصوصًا بعد الإطاحة بحكم جماعة "الإخوان" في مصر عام 2013، دخلت الجماعة مرحلة جديدة. فقد وجدت نفسها أمام خسارة جيوسياسية كبرى في محيطها التقليدي، ما دفعها إلى اعتماد تحوّل تكتيكي واستراتيجي في آنٍ واحد.
فبدلًا من الاكتفاء باستخدام أوروبا كمنطقة خلفية للدعم والتمويل والإعلام، بدأت تعمل على نقل جزء أساسي من نشاطها إلى داخل الفضاء الأوروبي نفسه، مستفيدة من واقع قانوني وسياسي لم يكن مُهيّأً بعد للتعامل مع تنظيمات أيديولوجية عابرة للحدود، تعمل تحت غطاء مدني وديني.ثالثًا: من "الضحية السياسية" إلى فاعل نفوذ داخل المجتمعات الأوروبيةفي هذه المرحلة، لم تعد جماعة "الإخوان" تتحرّك بوصفها «ضحية سياسية» فحسب، بل بوصفها فاعل نفوذ منظّم يسعى إلى إعادة إنتاج نفسه داخل المجتمعات الأوروبية. وهكذا، تحوّلت أوروبا من مجرد ملاذ قانوني إلى ساحة عمل أساسية، ومن فضاء حماية إلى منصة تأثير بنيوي طويل الأمد.
وفي موازاة هذا التمدّد، بدأت خلال السنوات الأخيرة دول أوروبية عدة – مثل فرنسا وألمانيا والنمسا – إعادة النظر في تعاملها مع جماعة "الإخوان"، بعد تكشّف علاقاتها بشبكات متطرفة، وعمليات تأثير خفي داخل الجاليات، ومحاولات بناء مجتمعات موازية. وقد أدركت هذه الدول، وإن متأخرة، أنّ المشكلة لا تتعلّق بالتديّن أو بحرية المعتقد، بل بمشروع أيديولوجي سياسي يستغل القيم الديمقراطية لإعادة إنتاج خطاب إقصائي وهيكلي.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل أنّ دولًا عربية عدّة، وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، كانت قد حظرت جماعة "الإخوان" واعتبرتها تنظيمًا سياسيًا راديكاليًا تقسيميًا، وحذّرت مرارًا من خطورتها على المجتمعات الغربية. ولا تزال تحذيرات وزير الخارجية الإماراتية الشيخ عبدالله بن زايد عام 2017 بشأن تأثير الإسلام السياسي في أوروبا، تتردّد اليوم بوضوح أكبر.
واليوم، وبعد تَكشُّف كثير من الحقائق، تقف الدول الأوروبية أمام اختبار حقيقي في تعاملها مع جماعة "الإخوان". فالمسألة لم تعد مرتبطة بحرية المعتقد أو ممارسة التديّن، بل بطبيعة مشروع أيديولوجي سياسي يستغل الفضاءات الديمقراطية لبناء نفوذ طويل الأمد وهياكل موازية داخل المجتمعات.
لقد نجحت الجماعة في تحويل أوروبا إلى «ملاذ آمن» فعلي، مستفيدة من حسن النوايا، والثغرات القانونية، وغياب قراءة دقيقة لطبيعة مشروعها وأهدافه بعيدة المدى. غير أنّ المرحلة المقبلة ستكشف ما إذا كانت القارة العجوز قادرة على تصحيح هذا المسار، وحماية نموذجها القيمي والمؤسساتي، من دون المساس بالحريات العامة أو الوقوع في فخ التعميم والاستقطاب.
فهل تنجح الدول الأوروبية في ذلك؟۔
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
