يواجه المنتخب المغربي بقيادة وليد الركراكي تحديا تاريخيا في سعيه لمعانقة اللقب القاري الـ2، يتمثل في تجاوز ذكريات "صدمة 1988" ومواجهة حقيقة تاريخية صادمة تؤكد أن الأرض في إفريقيا نادراً ما تبتسم لأصحابها.فخ الاستضافةورغم أن الأعراف الكروية تصنف عامل الأرض والجمهور كورقة رابحة أولى لأي منتخب يطمح للتتويج، حيث تُسخر الحكومات الميزانيات الضخمة وتسابق الاتحادات الرياضية الزمن لتجهيز البنية التحتية استناداً لفرضية أن "صاحب الدار هو الأحق باللقب"، إلا أن إخضاع هذه المسلمات لمجهر الأرشيف الإفريقي يكشف واقعاً مغايراً تماماً ينسف هذه النظريات.وتشير جردة حسابات النسخ السابقة لنهائيات كأس الأمم الإفريقية، إلى أن الاستضافة غالباً ما تتحول من ميزة تكتيكية ودفعة معنوية إلى "عقبة فنية" تطيح بحسابات المدربين، حيث أثبتت الوقائع الميدانية أن الأرض في القارة السمراء كثيراً ما أدارت ظهرها لمستضيفيها.ويقدم تاريخ البطولة إحصائيات قاسية تؤكد أن تنظيم هذا الحدث القاري بات أشبه بـ"الفخ" الذي يسقط فيه كبار القارة تباعاً. وتتجاوز هذه "اللعنة" كونها مجرد خرافة يتداولها المشجعون، لتصبح حقيقة تدعمها لغة الأرقام والنتائج التي أقصت منتخبات كانت تملك كافة مقومات التتويج، لكنها عجزت عن استغلال "ميزة" اللعب بين جماهيرها، وهو السيناريو الذي يسعى "أسود الأطلس" لتفاديه في النسخة المقبلة.11 لقباً فقط في 67 عاماًالحقيقة الرقمية الأولى التي تصدم المحللين هي ندرة فوز المستضيف باللقب. منذ انطلاق النسخة الأولى في الخرطوم عام 1957، وحتى صافرة نهاية نسخة 2023، لُعبت 34 دورة لكأس الأمم الإفريقية. من بين هذا الكم الكبير من البطولات، لم ينجح البلد المنظم في الإبقاء على الكأس داخل حدوده سوى في 11 مناسبة فقط.بلغة الإحصاء، نسبة نجاح صاحب الأرض في التتويج لا تتعدى 32%، بينما ذهب اللقب في 68% من الحالات لمنتخبات زائرة نجحت في خطف الكأس من قلب العواصم المستضيفة. هذه النسبة الضئيلة تؤكد أن القاعدة في إفريقيا هي "فشل المستضيف"، وأن التتويج هو الاستثناء الذي يحتاج لظروف خاصة جداً.قائمة الناجين من هذا "المقصلة" محدودة جداً وتضم: مصر (1959، 1986، 2006) إثيوبيا (1962)، غانا (1963، 1978)السودان (1970)نيجيريا (1980)الجزائر (1990)جنوب إفريقيا (1996) وتونس (2004). ثم توقف الزمن لسنوات طويلة، قبل أن تعود كوت ديفوار لكسر الصيام في 2023.العقد الأسود (2006 - 2023)لعل الفترة الأكثر دلالة على صعوبة مأمورية المستضيف هي الحقبة الممتدة ما بين 2006 و2023. فبعد تتويج مصر بلقب 2006 في القاهرة، دخلت القارة في "صيام" طويل استمر لـ17 عاماً متواصلاً، عجزت خلاله 7 دول منظمة عن استغلال الملاعب والجماهير، وسقطت جميعها لأسباب فنية وتكتيكية مختلفة.في 2008، اصطدمت غانا التي كانت تملك جيلاً ذهبيًا بقيادة إيسيان ومونتاري، بصلابة الكاميرون التكتيكية في نصف النهائي وخسرت بهدف نظيف، مكتفية بالمركز الثالث. وفي 2010، ودعت أنغولا البطولة من ربع النهائي رغم البداية القوية. وتكرر السيناريو مع الغابون وغينيا الاستوائية في تنظيم مشترك عام 2012، ثم جنوب إفريقيا في 2013 التي خرجت بركلات الترجيح أمام مالي في ربع النهائي.حتى غينيا الاستوائية التي وصلت لنصف نهائي 2015 بقرارات تحكيمية مثيرة للجدل، سقطت بثلاثية مذلة أمام غانا. أما الغابون في 2017، فقد خرجت من الدور الأول في مفاجأة مدوية رغم وجود نجم بحجم أوباميانغ، مما يؤكد أن الأرض لا تشفع لأصحابها إذا غاب التوفيق الفني.مصر والكاميرون.. فشل تكتيكيالدرس الأبرز في فشل المستضيفين قدمته كل من نسختي 2019 و2021، حيث لم يكن السقوط وليد الصدفة، بل نتاج أخطاء فنية وتكتيكية قاتلة عاقبت أصحاب الأرض.في مصر 2019، دخل "الفراعنة" البطولة كمرشح وحيد، وحققوا العلامة الكاملة في المجموعات (9 نقاط) دون استقبال أي هدف. لكن في ثمن النهائي، نجح منتخب جنوب إفريقيا بقيادة المدرب ستيوارت باكستر في قراءة المباراة تكتيكياً بشكل أفضل من المدرب خافيير أجيري. "البافانا بافانا" أغلقوا المساحات أمام محمد صلاح وتريزيغيه، واعتمدوا على المرتدات السريعة التي ضربت الدفاع المصري المتقدم في الدقيقة 85 عبر "لورش"، ليخرج المستضيف خالي الوفاض في درس تكتيكي قاسٍ.وفي الكاميرون 2021، كان منتخب "الأسود غير المروضة" يملك أقوى خط هجوم في البطولة بقيادة فينسنت أبوبكر وكارل توكو إيكامبي. لكن في نصف النهائي أمام مصر، عجز المدرب توني كونسيساو عن فك شفرة الدفاع المصري المتكتل، وفشل في استغلال الفرص المتاحة طوال 120 دقيقة، ليجر الفريق لركلات الترجيح التي ابتسمت للضيوف. هنا لم يكن الخروج بسبب الخوف، بل بسبب العجز عن إيجاد الحلول الهجومية أمام خصم منظم دفاعياً.المغرب 1988.. صدمة لا تنسىبالعودة إلى الأرشيف المغربي، نجد أن "أسود الأطلس" ذاقوا مرارة هذه الكأس من قبل. في نسخة 1988 التي استضافتها المملكة، كان المنتخب المغربي يضم جيلاً أسطورياً (الزاكي، التيمومي، الحداوي، بودربالة) وكان مرشحاً فوق العادة بعد إنجاز مونديال المكسيك 1986.تصدر المغرب مجموعته في الدار البيضاء، لكنه اصطدم في نصف النهائي بالمنتخب الكاميروني القوي. المباراة كانت "معركة تكتيكية" بامتياز، حسمها هدف "سيريل ماكاناكي" للكاميرون، ليفشل المغرب في الوصول للنهائي على أرضه ويكتفي بالمركز الـ4. وتظل تلك النسخة شاهداً تاريخياً على أن امتلاك أفضل اللاعبين واللعب على أرضك لا يضمن لك الفوز أمام خصم يجيد إدارة تفاصيل المباريات الإقصائية.الاستثناء الإيفواري 2023قد يرى البعض في تتويج كوت ديفوار بالنسخة الماضية دليلاً على نهاية "اللعنة"، لكن مسار "الأفيال" يؤكد العكس. لم تتوج كوت ديفوار بفضل الاستضافة، بل توجت رغم الاستضافة، فالجميع يتذكر كيف خسر الفريق برباعية نظيفة أمام غينيا الاستوائية في دور المجموعات، وكان خارج البطولة حسابياً لولا نتائج المجموعات الأخرى ومنها المغرب الذي قدم هدية العمر للفيلة.وخلال هذا السيناريو الإعجازي، الذي شهد إقالة مدرب المنتخب وسط البطولة والتأهل كأفضل ثوالث، تأكد بالفعل أن مسار المستضيف محفوف بالمخاطر الكارثية، وأن النجاة منه تتطلب معجزة كروية لا تتكرر دائماً.اليوم، ومع انطلاق "كان 2025"، تقف هذه المعطيات كحقائق دامغة لا يمكن تجاوزها. الأرض ليست ضماناً، والجمهور لا يسجل الأهداف. فالتاريخ يثبت أن المنتخبات التي تعتمد فقط على "حماسة الاستضافة" غالباً ما تصطدم بحائط الواقع الفني في الأدوار الإقصائية. والناجي الوحيد من هذه المعادلة الصعبة هو من يمتلك الجودة الفنية، الانضباط التكتيكي، والقدرة على إدارة المباريات بتفاصيلها الصغيرة، بعيداً عن وهم "الأرض تلعب مع أصحابها".(المشهد)۔۔
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
