ملخص قامت سمعة جورج بوخنر ككاتب مسرحي فقط انطلاقاً من ثلاث مسرحيات وحيدة كتبها خلال عامين هما 1835 و1836، أي قبل رحيله بشهور قليلة. فبوخنر الذي ولد في غودلاو قرب دارمشتادت عام 1813 مات بمرض الطاعون عام 1837 ولم تكن سنه تزيد على 23 سنة وأربعة أشهر.
"ليس التشاؤم في الفن فعلاً مضاداً للثورة، بل إنه يخدم في التنبيه ضد حسن نيات الممارسة الراديكالية: تلك الممارسة التي تعد، خطأً، أن كل المشكلات التي يثيرها الفن، وكل الشرور التي يندد بها، يمكن حلها من طريق الصراع الطبقي.
LIVE An error occurred. Please try again later
Tap to unmute Learn more ومن هنا، فإن هذا التشاؤم يتسلل بالضرورة، وكفعل صحي، من داخل الأعمال التي تجعل من الثورة، والترويج لها، موضوعها الرئيس. ومثالنا الأكثر كلاسيكية على هذا هو مسرحية "موت دانتون" لجورج بوخنر. هذا الكلام الذي كتبه الفيلسوف الألماني/ الأميركي هربرت ماركوزه عام 1977، يمكن اعتباره نوعاً من إعادة الاعتبار إلى عمل فني كتب قبل ذلك بنحو قرن ونصف القرن، وكتبه بالتحديد مؤلف كان قدره أن يموت وهو بعد في الـ23، بعد عامين فقط من تقديم هذه المسرحية للمرة الأولى على الخشبة في هامبورغ وإثارتها ما أثارته من عواصف. واللافت أن بوخنر لم يكن، حين كتب "موت دانتون"، تجاوز الـ20 من عمره، ومع هذا كان سبق أن ثبت مكانته ككاتب متمرد واعٍ، عبر كثير من الكتابات السياسية والمسرحية.
لكن "موت دانتون" رجمت ولعنت، ذلك أنها لم تتوانَ، في سبيل الحديث عن الثورة الفرنسية، عن ابتكار ما سمي لاحقاً بـ"البطل المضاد"، وعن طرح معضلة البطل الإشكالي ودور الفرد في صناعة التاريخ، ثم دور القلق في صناعة الفرد، مارة في طريقها على واحدة من الإشكاليات التي ستشغل بال القرنين الـ19 والـ20: "حق" الثورة في أن تأكل أبناءها. وبالنسبة إلى جورج بوخنر، تقدم إلينا الثورة الفرنسية حالاً كلاسيكية عن أهل الثورة وأبطالها حين ينقلبون على بعضهم بعضاً، وقد شعر كل واحد منهم أن الحق في جانبه وأنه هو - من دون غيره - المؤهل لحمل رسالة التاريخ، ما إن ينتصر العمل الجماعي ضد العدو المشترك.
لب الموضوع غير أن قراءة أكثر تعمقاً، اليوم، لـ"موت دانتون" كفيلة بأن تجعلنا نرى فيها تجاوزاً، ومن بعيد، لإشكالية الثورة وأبطالها، لنصل إلى لب موضوعها، وهو ما يعبر عنه الباحث الفرنسي جيرار روليه في قوله "إن علينا أن نفهم موت دانتون باعتبارها ترجمة لأزمة إيمان قوية وعاصفة في قدرة العقل نفسه على تغيير العالم، وتسيير وإعادة تسيير مجرى التاريخ الكوني" والحقيقة أن هذا الباحث لا يبدو لنا بعيداً من الصواب هنا.
وحسبنا للتيقن من هذا أن نغوص في الحوار الفلسفي الأخير الذي يدور بين المحكومين في آخر المسرحية، إذ نشاهد هيرو وهو يمسك بذراع كاميل دي مولان، متحدثاً إليه، بلغة شاعرية خالصة، عن انهيار العالم قائلاً "إن عليك أن تشعر بالمتعة يا كاميل. إذ إننا سنعيش ليلة بالغة الحسن. فالغيوم منتشرة في سماء الغسق الهادئة، مثل أولمب تنطفئ، مسكونة بعبور آلهة الأولمب وهي تمحي وتختفي". وواضح أن هذه الصورة التي يصفها هيرو، إنما هي تعبير عن رؤية للعالم بمبادئ تجاوزية، وعن نهاية منظومة يتعين على البطل التراجيدي أن يخضع لها: إنه غروب الأصنام، لكنه في الوقت نفسه فجر يوم جديد لا أصنام فيه ولا أفكار.
التشاؤم فعل ثوري وهكذا، في ضوء هذا التفسير، يمكننا أن نجد، بقلم جورج بوخنر، كيف يتحول فعل التشاؤم إلى نص ثوري وإلى عمل يعد بالفجر الجديد. وبالنسبة إلى بوخنر، لا يمكن هذا الفجر الجديد إلا أن يكون إنسانياً، من دون مثل عليا ومن دون بطولات خارقة. ولنتذكر أن بوخنر، حين كتب "موت دانتون" كان في طريقه الحاسم للتعبير عن بطل - مضاد "آخر" وتأسيسي هو "فويزيك" (الشخصية الرئيسة في مسرحيته التالية والأخيرة، والتي ستكون الأكثر شهرة).
وفي إطار هذا التأسيس كان يمكن الفيلسوف، وعالم الجمال الكبير، ليسنغ أن يكتب في "درامية هامبورغ" أن ليس في وسعنا أن نشعر بتعاطف إنساني إلا تجاه أبطال من البشر يمكننا أن نشعر أن في إمكاننا التماهي معهم. إن على البطل أن يخطئ... يجب عليه أن يسقط، فارتكاب الخطأ وحده يمكنه أن يقربه منا، ذلك أن "المصير التراجيدي الذي يعرفه البطل الإنسان لا.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية
