فورين أفيرز : مع سقوط نظام الأسد ودخول تركيا على خط مفاوضات غزة، بدا لأردوغان أن نفوذ بلاده في الشرق الأوسط على وشك الصعود مجدداً، لكن إعادة إعمار سوريا كشفت حدود قدرة أنقرة منفردة

ملخص يطمح أردوغان إلى ترسيخ نفوذ إقليمي لتركيا مستنداً إلى إرث عثماني ورؤية كبرى، لكن قدرات بلاده الداخلية وحدودها الاقتصادية والمؤسسية، إضافة إلى مقاومة إقليمية تقودها إسرائيل، تجعل هذا الطموح أبعد من المنال. وبينما تمنح الشراكة مع ترمب زخماً رمزياً، يبقى النفوذ التركي محكوماً بمعادلات غير مستقرة وبتحديات داخلية تهدد مشروع "القرن التركي" من أساسه.

حين دخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البيت الأبيض في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، كان في حاجة إلى تحقيق مكسب سياسي ملموس من زيارته. فالرؤية الكبرى التي عرضها أمام الجمهور التركي عن دور بلاده القيادي في الشرق الأوسط بدأت تتعرض لاهتزازات مع تزايد الشكوك حولها. وفي الداخل، كانت الخلافات السياسية والأزمات الاقتصادية تستنزف اهتمامه باستمرار، مما يهدد إرثه بعد 23 عاماً في السلطة. وقد بدا أن إطاحة نظام بشار الأسد في سوريا، على يد قوات معارضة مدعومة من تركيا في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تمثل فرصة ذهبية لتوسيع نفوذ تركيا، لكن سرعان ما اتضح أن المهمة الهائلة المتمثلة في إعادة إعمار سوريا تفوق قدرات تركيا بمفردها.

LIVE An error occurred. Please try again later

Tap to unmute Learn more وبدا أن التوجه إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد يمنح أردوغان الزخم السياسي الذي يبحث عنه. فعلى رغم الخلافات التي طرأت في الآونة الأخيرة بين أنقرة وواشنطن - من شراء أنظمة صواريخ روسية إلى التوغلات التركية المتكررة في سوريا - رأى ترمب في أردوغان شريكاً يمكن التعويل عليه في السعي لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط. كذلك تمتلك تركيا نفوذاً على حركة "حماس"، وهو ما قد يفيد في مفاوضات وقف إطلاق النار التي تقودها الولايات المتحدة مع إسرائيل، وتستطيع أنقرة الإسهام في جهود حفظ السلام وإعادة الإعمار في غزة وأوكرانيا. وعلى عكس أسلافه في البيت الأبيض، أبدى ترمب إعجاباً بنهج أردوغان السلطوي وبراعته في المناورة الجيوسياسية، واصفاً إياه مراراً بـ"الصديق" و"الزعيم القوي". ومن جانبهم، كان المسؤولون الأتراك يأملون في أن تتيح الشراكة المتجددة مع ترمب - الذي يقارب العلاقات الخارجية بمنطق الصفقات - فرصة لتركيا كي تعزز موقعها في الشرق الأوسط.

في البداية، بدا أن الحسابات التركية تؤتي ثمارها. فبعد أيام قليلة من زيارة أردوغان إلى واشنطن، شارك رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن في محادثات وقف إطلاق النار في غزة الجارية في مصر. وعلى رغم أن أنقرة كثيراً ما دعمت القضية الفلسطينية، فإن هذه كانت المرة الأولى التي تنتظم فيها رسمياً في مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وعندما وقع الاتفاق في الـ13 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وقف أردوغان إلى جانب ترمب وزعيمي مصر وقطر، في مشهد رآه أنصاره دليلاً على عودة تركيا إلى مسرحها التاريخي. فقبل أكثر من قرن، قاد الجنرال إدموند ألنبي الجيش البريطاني إلى القدس منهياً أربعة قرون من الحكم العثماني، لكن المشهد بدا الآن وكأن تركيا تستعيد حضورها السياسي في الأراضي المقدسة. ففي الأعوام الأخيرة، كثفت أنقرة نشاطها العسكري في العراق وليبيا وسوريا، وجاءت مشاركتها في مفاوضات غزة لتشكل، بالنسبة إلى مؤيدي أردوغان، استعادة مكتملة الرمزية لدور تركيا في الشرق الأوسط.

أو في الأقل هذا ما أراد أردوغان أن يرسخه في أذهان الأتراك. لكن الواقع هو أن تركيا لا تزال قوة دون مستوى طموحه في إقامة نظام إقليمي بقيادتها. فالتقارب مع ترمب منح أنقرة مكسباً رمزياً على صعيد الصورة، غير أن سياسة الرئيس الأميركي الخارجية، بما تتسم به من تقلب وافتقار إلى الاتساق، تبدو بعيدة من تعزيز نفوذ تركيا في المنطقة أو إقناع دول الشرق الأوسط بقبول دورها القيادي. وفي الداخل، تواجه تركيا مزيجاً من الأزمات البنيوية: اقتصاد متعثر، دولة تآكلت قدراتها المؤسسية، وضغوط سياسية مستمرة. أما خارجياً، فتواجه تركيا معارضة واسعة، ولا سيما من إسرائيل الواثقة من موقعها والماضية في سياسات هجومية، وهو ما يحد من قدرتها على بناء نظام إقليمي وفق شروطها. وإذا أخفق أردوغان في تحقيق وعده بإطلاق حقبة جديدة من النفوذ التركي، فقد تتزايد الضغوط الداخلية عليه فيما تمضي تركيا في انزلاقها الاستراتيجي داخل عالم أشد خطورة.

الاستراتيجية الكبرى يعتمد مشروع أردوغان الجيوسياسي على فكرة بسيطة: تركيا ليست مجرد قوة متوسطة، بل قدرها هو أن تقود منطقة الشرق الأوسط الأوسع. بعد أسبوع من سقوط الأسد، أعلن أردوغان أن "تركيا أكبر من تركيا"، وقال "كأمة، لا يمكننا أن نحصر رؤيتنا في 782 ألف كيلومتر مربع". مردفاً أن تركيا "لا يمكنها الإفلات من مصيرها. وأولئك الذين يقولون 'ماذا تفعل تركيا في ليبيا أو الصومال؟' لا يفهمون هذا".

ورغم أن رؤية أردوغان تحمل قسطاً من الحقيقة، فإنها مشبعة بقدر كبير من صناعة الأساطير. فداخل تركيا، روّجت آلة الدعاية الحكومية الواسعة لحملة "قرن تركيا" وقدمتها بوصفها وروجت لفكرة أن تركيا تتجه نحو استعادة عظمتها. وأُعيد إخراج الإرث العثماني - الذي اعتادت النخبة السياسية في تركيا الحديثة النظر إليه كرمزٍ لعصر الانحطاط - بوصفه نموذجاً للنظام والتعددية. وفي المسلسلات التلفزيونية، والمؤتمرات شبه الأكاديمية، وحتى في قوائم المطاعم التي تقدّم أطباقاً مثل "لذة السلطان"، تُستعاد الحقبة العثمانية كـ"عصر ذهبي" أطاح به في النهاية التدخل الخارجي والخيانة من الداخل.

كذلك فإن المؤسسة الأمنية التركية، التي أصبحت خاضعة لسلطة الرئاسة منذ دخول التعديلات الدستورية حيز التنفيذ عام 2018، تتبنى بدورها فكرة إقامة نظام إقليمي بقيادة تركيا. والجيش، الذي كان في السابق يتسم بضبط النفس، أصبح الآن يؤيد مواقف تركيا الدفاعية المتقدمة في العراق وليبيا وسوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط. تسلط البيانات الأخيرة الصادرة عن مجلس الأمن القومي التركي الضوء على دور تركيا في تحقيق الاستقرار ومسؤولياتها في هذه المناطق، فضلاً عن استعدادها للمساعدة في حفظ الأمن في غزة. وفي الجلسات الخاصة، يصف المسؤولون الأتراك تركيا بأنها الجهة الضامنة للاستقرار من القوقاز إلى بلاد الشام، مؤكدين التوافق بين تركيا والأنظمة الصديقة.

من المستبعد أن يعزز التقارب مع ترمب نفوذ تركيا

في عهد أردوغان، وسعت تركيا بالفعل حضورها الإقليمي. وقد بسطت نفوذها العسكري على امتداد القوقاز والمشرق العربي وأجزاء من أفريقيا، بينما استعرضت قوتها البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. على مدى العقد الماضي، وقعت أنقرة شراكات دفاعية وأمنية مع ألبانيا والجزائر وأذربيجان والبوسنة وإثيوبيا وليبيا والنيجر وباكستان وقطر، والصومال، وسوريا، وتونس. وفي ليبيا، تبرم تركيا صفقات اقتصادية وتقدم الدعم الأمني، الذي يشمل تدريب قوات إنفاذ القانون والجيش. عام 2020، دعمت تركيا التوغل العسكري الأذري لاستعادة أراضٍ من أرمينيا، وبعد ذلك اضطلعت الشركات التركية بدور رائد في إعادة الإعمار وتطوير البنية التحتية في المناطق التي تم الاستيلاء عليها حديثاً. وتسعى تركيا الآن إلى تطبيع علاقاتها مع أرمينيا أيضاً، وإنشاء تحالف اقتصادي إقليمي من شأنه أن يحد من نفوذ إيران وروسيا في القوقاز ويوسع نطاق وصول تركيا المباشر إلى الأسواق. كذلك فإن الصناعات الدفاعية التركية المتنامية منحت أنقرة نفوذاً في علاقاتها مع حلفائها الأوروبيين ومدخلاً إلى أسواق أفريقيا وآسيا. وإضافة إلى الطائرات المسيرة، التي تعتبر أهم صادرات تركيا في مجال الدفاع، تنتج الشركات الخاصة والحكومية الذخيرة والسفن الحربية والصواريخ والدبابات والمركبات المدرعة، وستضيف إلى هذه القائمة قريباً أول طائرة مقاتلة في البلاد.

في خضم سعيها إلى بسط نفوذها، لا تولي تركيا اهتماماً خاصاً بالحكم الداخلي في الدول المجاورة، بل تركز في المقام الأول على الترتيبات التي تعزز مصالحها الاقتصادية والأمنية. ومن هذا المنحى، فإن رؤية أردوغان اليوم أضيق نطاقاً من الأجندات التي طرحتها حكومته في وقت سابق، مثل عقيدة "لا مشكلات مع الجيران" التي طرحها وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو. كانت تلك الفكرة، التي طبعت توجهات أنقرة الإقليمية في الأعوام الأولى من حكم أردوغان، تهدف إلى تحقيق التوازن بين تحالفات تركيا التقليدية مع الغرب وتوسعها نحو الشرق، وتعزيز نفوذ البلاد في الشرق الأوسط وأفريقيا من خلال طرحها كنموذج إقليمي للإصلاح الديمقراطي. غير أن سياسة داوود أوغلو تداعت خلال الربيع العربي، ويعود ذلك جزئياً إلى عدم تحقق التحول السياسي الذي حاولت تركيا الضغط من أجل تحقيقه في مصر وسوريا واليمن. والآن، فيما لم تعد تركيا نفسها دولة ديمقراطية، أصبحت أقل اهتماماً بتغيير الأنظمة السياسية لجيرانها من اهتمامها باستخدام القوة القسرية والصفقات التبادلية بغية تعزيز التضامن بين الأنظمة السنية غير الليبرالية.

حقل تجارب في الآونة الأخيرة، أصبحت سوريا ساحة لتجارب تركيا الطموحة في المنطقة. وتبسط تركيا نفوذاً واسعاً على أجزاء من شمال سوريا، وقد قامت ببناء مدارس ومستشفيات ومحاكم في المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا خلال فترة حكم نظام الأسد. وتحظى جماعة "هيئة تحرير الشام" التي أطاحت نظام الأسد بدعم تركيا منذ فترة طويلة. منذ أن تولى تنظيم هيئة تحرير الشام وزعيمه أحمد الشرع السلطة في دمشق، ساعدت تركيا النظام الجديد من خلال توفير التدريب الأمني والمعدات الأمنية، وإدارة الحدود، والمساعدات الإنسانية، والمعدات والبذور الزراعية، وأعمال الإصلاح العاجلة لشبكة الطاقة في سوريا. وبدأت الشركات التركية في المشاركة في عطاءات لمشاريع البناء والطاقة والطرق داخل سوريا. والأهم من ذلك بالنسبة إلى دمشق، أن أنقرة نجحت في التأثير في واشنطن والرياض والعواصم الأوروبية من أجل رفع العقوبات التي فرضت على البلاد في عهد الأسد.

كذلك فإن ظهور نظام حليف في سوريا مهد الطريق أمام أنقرة لإحياء عملية السلام المتوقفة مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهو جماعة انفصالية خاضت تمرداً استمر عقوداً ضد الدولة التركية. وبدأت حكومة أردوغان محادثات مع زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان في أواخر عام 2024، في محاولة واضحة لجذب الناخبين الأكراد في الانتخابات المحلية. وقد جعلت إطاحة الأسد في دمشق التوصل إلى تسوية يبدو أكثر قابلية للتحقيق. طوال الفترة التي نشطت فيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، وهي تحالف من الميليشيات الكردية السورية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، بشكل مستقل في شمال شرقي سوريا وترأست جيشاً كبيراً، كانت أنقرة تخشى من تهديد أمني محتمل. لكن هذا التهديد تبدد بمجرد رحيل الأسد ودخول "قسد" في محادثات استكشافية مع كل من دمشق وأنقرة - وهي عملية غالباً ما يلعب فيها السفير الأميركي لدى تركيا توم براك دور الوسيط - لتحديد دور الأكراد في حكم سوريا ما بعد الأسد. لا تزال الخلافات مستمرة حول السيطرة على موارد المياه وعائدات النفط، ومدى الاستقلال السياسي للمنطقة التي يسيطر عليها الأكراد، وشروط اندماج "قسد" في الجيش السوري، لكن كلفة فشل المحادثات باهظة للغاية لدرجة أن لا أحد يستطيع التخلي عن التفاوض.

إن إحياء عملية السلام مع الأكراد يخدم غرضاً استراتيجياً أكبر بالنسبة إلى أردوغان: فهو يمنحه سبباً لتخفيف حدة القومية المتشددة التي ميزت حكمه على مدى العقد الماضي وإعادة تصور تركيا باعتبارها قائداً إقليمياً مناسباً. يصف كل من أردوغان وحليفه القومي المتطرف دولت بهتشلي - الذي كان أول من دعا علناً إلى استئناف المحادثات مع حزب العمال الكردستاني في أكتوبر (تشرين الأول) 2024 - التحالف التركي الكردي - العربي الآن بأنه ركيزة الاستقرار الإقليمي. ويتيح لهم هذا التركيز أيضاً استحضار ذكرى الإمبراطورية العثمانية متعددة الأعراق. وكتب أردوغان أخيراً على منصة إكس "إن.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من اندبندنت عربية

منذ ساعتين
منذ 26 دقيقة
منذ 3 ساعات
منذ ساعة
منذ 21 دقيقة
منذ ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 22 ساعة
سي ان ان بالعربية منذ 14 ساعة
سي ان ان بالعربية منذ 16 ساعة
بي بي سي عربي منذ ساعتين
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 12 ساعة