لم يعُد الجهل، في العالم الحديث، مجرد ظاهرة سلبية ناتجة عن غياب التعليم أو محدودية الوصول إلى المعرفة، بل أصبح بنيةً مركّبة تشارك في إنتاجها قوى سياسية واقتصادية وثقافية، وتتغذّى بدورها على ما يمكن تسميته «القابلية للجهل»، أي الاستعداد الاجتماعي والنفسي لتلقي المعرفة الناقصة أو المشوّهة، والتفاعل معها بوصفها حقيقة مكتملة. وهكذا يغدو الجهل، في كثير من الأحيان، ليس نقيضاً للمعرفة، بل منتجاً موازياً لها، يعمل وفق آليات دقيقة، ويحقّق وظائف محددة تخدم مصالح الفاعلين في السلطة والمجتمع.
التمييز بين «صناعة الجهل» و«القابلية للجهل» ضروري لفهم المنظومات التي تشكّل إدراك الإنسان للعالم. فالصناعة تُحيل على عمليات منظمة لتشكيل وعيٍ مضلَّل أو مبتور، بينما القابلية تشير إلى تربة ثقافية ونفسية تسمح لهذه الصناعة بأن تزدهر. ومن دون الجمع بين الطرفين، يستحيل تفسير انتشار التضليل، وسهولة اختراق المجال العام بالمعلومات الزائفة، وتحوّل الأكاذيب إلى يقينيات اجتماعية.
لقد أشار روبرت بروكتور ولوندا شيبنجر في كتابهما «صناعة الجهل وتفكيكه» إلى أن الجهل في كثير من السياقات ليس فقداناً للمعرفة، بل نتاجاً مؤسسياً يتم تصنيعه بوعي يحكمه منطق المصالح. لكن ما لم يتوسع فيه الخطاب العلمي بما يكفي هو الجانب الثاني من المعادلة: كيف يصبح المجتمع نفسه قابلاً لاستقبال الجهل؟ وكيف تتشكّل هذه القابلية، وتترسخ، وتتحول إلى جزء من بنية الوعي الجمعي؟ إن القابلية للجهل لا تنشأ من عوامل فردية معزولة، بل تنبت في منظومات اجتماعية يتداخل فيها ضعف الثقة بالمؤسسات، وانهيار معايير الحقيقة، وتضخُّم الخطابات الشعبوية، وتراجع الحقول النقدية. وفي هذا السياق، يتحول الإنسانُ من باحث عن الحقيقة إلى مستهلك للمعنى الجاهز، وتتحول المعرفةُ من عملية بحثية إلى سلعة رمزية تُستعمل لإنتاج الشرعية، لا لاكتشاف الواقع.
تاريخياً، لا تعمل صناعة الجهل إلا حين تجد أمامها جمهوراً مستعداً لاعتناق المعرفة المبتورة. وهذا الاستعداد نفسه له جذور: أنظمة تعليمية تُعيد إنتاج الحفظ بدل النقد، إعلام يقوم على الإلهاء بدل التحليل، وخطابات سياسية تستبدل النقاش العقلاني بـ «تأميم الانفعال الجماعي». وهكذا تتكوّن «البيئة الحاضنة للجهل» التي تجعل من إنتاجه عملية سهلة، ومن انتشاره ظاهرة طبيعية.
وتكمن خطورة القابلية للجهل في أنها تجعل المعرفة الحقيقية عاجزةً عن اختراق المجال العام. فالمجتمع القابل للجهل لا يرفض الحقيقة فقط، بل يختبر الحقيقة ضمن معايير عاطفية، حيث تُقبل المعلومة إذا وافقت الهوى، وتُرفض إذا خالفت التصورات.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الاتحاد الإماراتية
