عن التفاهة والمعنى والمذبح الخفي

لا تبدأ المجتمعات في السقوط حين تختار الشرّ بوعي، بل حين تختار الاستقرار على حساب المعنى. فالكارثة، في صورتها الحديثة، لا تأتي دائمًا في هيئة طغيان صارخ أو عنف فجّ، بل كثيرًا ما تتشكّل داخل أنظمة تبدو عقلانية، متوازنة، ومُرضية للأغلبية. أنظمة تُقنع أفرادها بأنها تعمل من أجلهم، بينما هي في الواقع تُعيد تشكيلهم على صورتها، وتطلب منهم ــ بصمت ــ أن يتنازلوا عمّا يجعلهم أحياء: السؤال، والاختلاف، والقدرة على الرفض.

التاريخ يعلّمنا أن الخطر الأكبر لا يكمن في الفوضى، بل في الانسجام المفرط. فحين يتطابق الأفراد مع النظام، وحين يصبح ما هو "مقبول" هو المعيار الأعلى، يبدأ المعنى في التآكل دون أن يلحظه أحد. لا تُرفع رايات القمع، ولا تُسمع صرخات الضحايا، بل يُستبدل ذلك بلغة هادئة، وإجراءات منظّمة، ووعود بالاستقرار. في هذه اللحظة، يصبح النظام نفسه كيانًا أخلاقيًا لا يُسأل، وتتحوّل المحافظة عليه إلى غاية تبرّر كل شيء.

حين تتحوّل الإدارة إلى سلطة صامتة

لا يُقصد بـ«نظام التفاهة» السخف أو الضحالة كما توحي الكلمة في الاستعمال اليومي، بل نمط حكم حديث، هادئ، ومنظّم، يُدار من داخل المؤسسات لا من خارجها. في هذا النظام، لا يُقصى الإنسان لأنه جاهل، بل لأنه غير قابل للإدارة، ولا يُستبعد الفكر لأنه خاطئ، بل لأنه مُربك. التفاهة هنا ليست نقصًا في الذكاء، بل فائضًا في التكيّف.

كما يبيّن آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، لا يحتاج هذا النظام إلى قمع مباشر أو رقابة صارمة، لأنه ينجح في جعل الأفراد يراقبون أنفسهم بأنفسهم. ما يُكافَأ ليس العمق ولا الجرأة، بل الانسجام مع القواعد غير المكتوبة: ألا يُبالَغ في السؤال، وألا يُذهب التفكير بعيدًا، وألا يُحرَج النظام بما لا يستطيع احتواءه. هكذا يُعاد تعريف الكفاءة بوصفها القدرة على العمل دون إثارة إشكال.

في هذا السياق، لا تختفي القيم، بل تُفرَّغ من مضمونها. تُستعمل مفاهيم مثل المهنية، الحياد، الموضوعية، والخبرة لا كأدوات بحث عن الحقيقة، بل كآليات لإغلاق النقاش. كل ما لا يمكن قياسه يُهمَّش، وكل ما لا يمكن إدخاله في نموذج إداري يُستبعد. يصبح المهم ليس ما نقوله، بل كيف نقوله، وليس ما نفكّر فيه، بل مدى توافقه مع السقف المسموح.

لم ينشأ هذا النظام من فراغ، بل تشكّل تدريجيًا حين تحوّلت أدوات التنظيم إلى غايات قائمة بذاتها. فقد أُعيد تعريف ما هو مشروع ومعقول ومهني، بحيث لم يعد السؤال المركزي: ماذا نفعل؟ بل: كيف نُدير ما نفعل دون إرباك النظام؟ لعبت اللغة دورًا حاسمًا في ذلك؛ لغة ملساء، محايدة في ظاهرها، تُفضّل التوازن على الوضوح، والملاءمة على الحقيقة، حتى غدت أداة لتهذيب الصراع لا لفهمه.

ثم جاءت الخبرة بوصفها سلطة تقنية لا معرفة نقدية. الخبير هو من يُتقن الإجراءات والنماذج، لا من يفهم السياق أو يطرح الأسئلة. وباسم الخبرة، يُقصى التفكير النقدي لأنه غير عملي، وتُهمَّش الرؤية لأنها غير قابلة للتطبيق. أما المؤسسة، فتكتمل فيها هذه البنية؛ إذ لا تطلب الولاء الفكري، بل الامتثال الإجرائي، ولا تسأل عمّا يؤمن به الفرد، بل عمّا إذا كان يلتزم بالبروتوكول.

بهذا التضافر بين اللغة والخبرة والمؤسسة، تُؤسَّس التفاهة لا بوصفها انحطاطًا، بل بوصفها نظامًا عقلانيًا مكتمل الأركان. نظام لا يقمع المختلف، لأنه ينجح في جعله غير ذي صلة، ولا يُسكت السؤال، بل يفرغه من جدواه. وهكذا، تعمل الأنظمة بكفاءة عالية، بينما يتوارى المعنى، ويصبح الاستمرار في العمل أهم من معرفة لماذا نعمل أصلًا.

الأزتك ونشأة القربان

إذا كان نظام التفاهة يبيّن كيف تستطيع الأنظمة الحديثة إفراغ المعنى دون عنف مباشر، فإن التاريخ يقدّم مثالًا أقدم وأكثر حدّة على المنطق ذاته: مجتمع شديد التماسك، مشبع باليقين، انتهى به الأمر إلى قيادة نفسه نحو الهاوية. هنا تبرز إمبراطورية الأزتك، لا بوصفها حضارة بدائية، بل مجتمعًا مكتمل التنظيم، واضح الأدوار، ومنسجمًا إلى حدّ الاختناق.

كانت تينوشتيتلان قلب هذا العالم؛ مدينة تُدار ببنية اجتماعية صارمة، وتنظمها طقوس جامعة تمنح الفرد معنى لمكانه ودوره. لم يكن الأزتك يعيشون في فوضى، بل في نظام محكم يربط الدين بالسياسة، والحرب بالاقتصاد، والحياة اليومية بسردية كونية شاملة عن استمرار العالم. غير أن هذا الاكتمال ذاته حمل بذرة الخطر، لأن النظام حين يكتمل إلى هذا الحد لا يترك مجالًا للسؤال.

في هذا السياق، لم يعد الاختلاف يُفهم بوصفه رأيًا آخر، بل تهديدًا للكون ذاته. كل شيء له تفسير مسبق، وكل حدث يُقرأ داخل المعنى نفسه، حتى صار الإجماع بديلًا عن التفكير، واليقين المغلق سقفًا نهائيًا للعقل. لم يكن الأزتك منقادين بقوة السلاح وحدها، بل بقوة معنى لا يسمح بالمراجعة ولا يعترف بالاحتمال. ومع الزمن، ما كان يضمن الاستقرار صار يمنع التكيّف، وما كان يمنح الهوية صار يحجب الرؤية.

في قلب هذا النظام، لم يكن العنف استثناءً، بل وظيفة منتظمة داخل بنية المعنى. فقد آمن الأزتك بأن استمرار الشمس، ومن ثم استمرار العالم، متوقف على تغذية إله الحرب هويتزيلوبوتشتلي بالدم البشري. وبهذا التصوّر، لم تعد التضحية فعلًا إجراميًا، بل واجبًا أخلاقيًا؛ الإنسان لا يُقدَّم بوصفه ضحية، بل بوصفه حلقة ضرورية في نظام كوني أكبر منه.

الأخطر أن هذا الطقس لم يكن مفروضًا بالقوة وحدها، بل.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الوطن السعودية

منذ 7 ساعات
منذ ساعة
منذ ساعة
منذ ساعتين
منذ 3 ساعات
منذ ساعتين
صحيفة عاجل منذ 10 ساعات
صحيفة الشرق الأوسط منذ 14 ساعة
صحيفة سبق منذ 13 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 13 ساعة
صحيفة عكاظ منذ 14 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 13 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 15 ساعة
صحيفة عاجل منذ 12 ساعة