في زمن تتسارع فيه خطوات التحول الرقمي، يبرز الشمول المالي كأحد المحركات الرئيسة لانتعاش القطاع المالي والمصرفي في مصر، محققًا أرقامًا غير مسبوقة تؤكد التحول الجذري في أنماط المعاملات.
ومع هذا التحول تجاوزت معاملات الإنترنت البنكي حاجز 7.5 تريليون جنيه (150 مليار دولار) بنهاية العام 2023، ما يعكس إقبالاً لافتاً على الخدمات المالية الرقمية التي باتت تسهم في تسهيل الحياة اليومية، وتعزيز الاقتصاد الوطني، وفق خبراء اقتصاد ومصرفيين، أكدوا أيضاً أن تعزيز الشمول المالي كان له دور كبير في إحداث هذه الطفرة في الخدمات المالية الرقمية، كما أن التكنولوجيا المالية أصبحت عنصراً أساساً في تطوير المعاملات المصرفية، مما يعزز التنافسية بين البنوك المصرية.
ما هو الشمول المالي؟
عرّف قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، الشمول المالي على أنه إتاحة الخدمات المالية بمختلف أنواعها لكافة فئات المجتمع عبر القنوات الرسمية، بجودة وتكلفة مناسبة، مع ضمان حماية حقوق المستفيدين.
ويعد التوسع في استخدام الخدمات المالية الرقمية وتهيئة البنية التحتية الرقمية أحد المحاور الإستراتيجية للشمول المالي، إذ تسعى الدولة من خلال تعزيز الابتكار التكنولوجي، وتوفير منصات رقمية آمنة وفعالة إلى تحسين وصول الأفراد إلى الخدمات المالية، مما يعزز من دمجهم في النظام المالي الرسمي.
ويعد الشمول المالي ضمن رؤية مصر 2030، ركيزة أساسية لدعم النمو الاقتصادي الشامل، وتحقيق الاستقرار المالي والاجتماعي. ويساهم هذا التوجه في تحقيق هدف "الاقتصاد التنافسي والمتنوع" من خلال زيادة مرونة الاقتصاد وقدرته على مواجهة التحديات، وتحسين بيئة الأعمال، وتحقيق تقدم ملموس في مؤشرات الشمول المالي.
وتُظهر إحصاءات البنك المركزي أن الشمول المالي للأفراد الطبيعيين في مصر، حقق تقدماً ملحوظاً، حيث بلغت نسبة المواطنين المشمولين مالياً (16 سنة فأكثر) 71.5% في يونيو 2024. كما سجلت الفترة من 2016 إلى يونيو 2024 معدل نمو قدره 181% في نسبة المواطنين الذين تمكنوا من الوصول إلى الخدمات المالية.
قفزة تريليونية في المعاملات الرقمية
في مشهد يعكس تحولًا جذرياً في القطاع المصرفي بمصر، حققت المعاملات المالية الرقمية قفزات غير مسبوقة، حيث بلغت أكثر من 7.5 تريليون جنيه بنهاية العام 2023.
وسجلت شبكة المدفوعات اللحظية "إنستاباي" قفزة ملحوظة بقيمة عمليات تجاوزت 1.2 تريليون جنيه (24 مليار دولار)، في حين وصل عدد البطاقات المصرفية المصدرة إلى 67 مليون بطاقة، من بينها 40 مليون بطاقة ضمن منظومة الدفع الوطنية «ميزة».
وعلى صعيد المحافظ الإلكترونية، ارتفع عددها إلى 45 مليون محفظة بحلول منتصف عام 2024، مما يؤكد تحول مصر نحو مجتمع أقل اعتمادًا على النقد، وأكثر اعتمادًا على التكنولوجيا.
وتعكس هذه الأرقام التي كشف عنها وكيل أول محافظ البنك المركزي المصري أيمن حسين في مؤتمر المدفوعات الرقمية والخدمات المالية "بافيكس" الذي استضافته القاهرة، الأسبوع الماضي، نجاح الشمول المالي، وإستراتيجية المجلس القومي للمدفوعات التي تهدف إلى توسيع قاعدة المستخدمين للأنظمة المصرفية، وتحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد الرقمي.
نقلة نوعية وتحفيز اقتصادي
ويؤكد الخبير المصرفي أحمد آدم أن الشمول المالي يؤدي دوراً محورياً في دعم نشاط الخدمات المالية الرقمية، حيث يتيح وصول شرائح أوسع من المجتمع إلى النظام المالي الرسمي، مما يفتح المجال أمام مزيد من الابتكارات في تقديم الخدمات المصرفية الرقمية.
وفي حديث لـ«إرم بزنس» يوضح آدم أن توسيع قاعدة العملاء الذين يعتمدون على التكنولوجيا المالية، مثل المحافظ الإلكترونية وتطبيقات المدفوعات اللحظية، يؤدي إلى تقليل تكلفة المعاملات المصرفية وزيادة كفاءتها، وهو ما يمثل دافعاً قوياً للنمو الاقتصادي.
وتوفر هذه الأدوات الرقمية للمواطنين سهولة في الوصول إلى الخدمات المالية، الأمر الذي يعزز من الشفافية المالية، ويقلل الاعتماد على التعاملات النقدية التقليدية، وفق الخبير المصرفي.
وأدى البنك المركزي المصري دوراً حاسماً في خلق بيئة محفزة لهذا التحول، وفق آدم، من خلال إطلاق مبادرات مثل منصة ترميز البطاقات الإلكترونية، التي ستسهم في تعزيز الأمان السيبراني، وتشجيع استخدام المدفوعات الرقمية، مشددًا على أن استمرار هذا التوجه سيضع مصر في صدارة الدول التي تتبنى التكنولوجيا المالية في المنطقة.
نهاية عصر النقد؟
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي بلال شعيب، أن التوسع في المعاملات المالية الرقمية في مصر يمثل خطوة مهمة نحو تقليل الاعتماد على النقد، ولكنه لا يعني بالضرورة نهاية عصر التعاملات النقدية بالكامل على المدى القريب.
ويوضح شعيب في حديث لـ«إرم بزنس» أن النقد سيظل جزءاً من المنظومة الاقتصادية لفترة ليست بالقصيرة، خاصة في المناطق الريفية والنائية التي تواجه تحديات في البنية التحتية الرقمية، وضعف الثقافة المالية.
ومع ذلك، يشير إلى أن التوسع المستمر في استخدام التكنولوجيا المالية، وزيادة الوعي المجتمعي، يمكن أن يؤدّيا، تدريجياً، إلى تقليل الاعتماد على النقد، مع تعزيز الشمول المالي الذي يدمج المزيد من الأفراد في النظام المصرفي الرسمي.
كما يشكل الأمن السيبراني تحدياً جوهرياً في هذا السياق، حيث يعتمد توسع الخدمات الرقمية على قدرة القطاع المصرفي على حماية بيانات المستخدمين، وضمان أمان العمليات، وهو ما يتطلب تحديثًا مستمرًا للأنظمة ومراقبة دقيقة للتهديدات، وفق الخبير الاقتصادي.
وعلى الرغم من هذه التحديات، يعتقد شعيب، أن استمرار دعم البنك المركزي وجهود القطاع المصرفي في تحسين البنية التحتية، وتعزيز الشمول المالي كفيل بتجاوز العقبات، ودفع عجلة التحول الرقمي من النجاح.
مخاطر سيبرانية
ومع تصاعد المخاوف من المخاطر الأمنية، يؤكد خبير الاتصالات وأمن المعلومات المهندس أشرف إبراهيم، أن التحول نحو الخدمات المالية الرقمية، رغم فرصته الكبيرة لتطوير القطاع المصرفي وتسهيل حياة المستخدمين، ولكنه يحمل في طياته مخاطر سيبرانية تتطلب إستراتيجيات صارمة لتأمين بيانات العملاء وأموالهم.
ويوضح إبراهيم في حديث لـ«إرم بزنس» أن من أبرز المخاطر التي تواجه المعاملات المالية الرقمية هي هجمات الاحتيال الإلكتروني، مثل" التصيد الاحتيالي (Phishing)، وسرقة الهوية الرقمية، وهجمات برامج الفدية (Ransomware)، التي تستهدف أنظمة الدفع، وتطبيقات المحافظ الإلكترونية.
ويرى خبير أمن المعلومات، أن التحدي يكمن في أن التكنولوجيا تتطور بوتيرة سريعة، وهو ما يجعل قراصنة الإنترنت قادرين على استغلال أي نقاط ضعف في أنظمة الحماية. لذلك، فإن الاستثمار في تقنيات الأمن السيبراني المتقدمة ليس رفاهية، بل ضرورة حتمية.
وللحفاظ على أموال العملاء والمستفيدين، ينوّه إبراهيم لأهمية تبني عدة إستراتيجيات، منها: استخدام تقنيات التشفير القوية لحماية البيانات في أثناء نقلها وتخزينها، وتفعيل أنظمة المصادقة متعددة العوامل (MFA) للتحقق من هوية المستخدمين.
بالإضافة إلى ضرورة تحديث مستمر للأنظمة البرمجية لمنع استغلال الثغرات، وتوعية وتثقيف المستخدمين حول كيفية التعامل الآمن مع المعاملات الرقمية، وتجنب الروابط والرسائل المشبوهة.
ويشدد إبراهيم على أهمية التعاون بين البنوك، وشركات التكنولوجيا المالية، والجهات الرقابية لضمان حماية البنية التحتية الرقمية، وتعزيز الثقة لدى العملاء، لأن نجاح التحول الرقمي يعتمد بشكل أساس على قدرة النظام المالي على مواجهة التهديدات وتأمين البيانات بكفاءة.
إستراتيجية «القومي للمدفوعات»
ولم يكن نجاح الشمول المالي وليد الصدفة، بل جاء نتيجة إستراتيجية متكاملة يقودها المجلس القومي للمدفوعات برئاسة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والتي تهدف إلى تقليل التعاملات النقدية، وتعزيز استخدام الأدوات المصرفية الرقمية لتسهيل حياة المواطنين، وتحفيز النشاط الاقتصادي، وفق الخبير المصرفي أحمد آدم.
وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم 89 لسنة 2017 الخاص بإنشاء المجلس القومي للمدفوعات، والذي يختص بخفض استخدام أوراق النقد خارج القطاع المصرفي ودعم وتحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية في الدفع بديلاً عنه، وتطوير نظم الدفع القومية وأُطُر الإشراف عليها للحد من المخاطر المرتبطة بها من أجل خلق نُظُم دفع آمنة وذات كفاءة عالية.
كما يختص المجلس أيضاً بالعمل على تحقيق الشمول المالي، بهدف دمج أكبر عدد من المواطنين في النظام المصرفي، وضم القطاع غير الرسمي للقطاع الرسمي، وتخفيض تكلفة انتقال الأموال، وزيادة المتحصلات الضريبية، وحماية حقوق مستخدمي نظم وخدمات الدفع، وتحقيق تنافسية سوق خدمات الدفع وتنظيم عمل الكيانات القائمة ورقابتها.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس