أواخر مارس الماضي، ووسط التحركات العسكرية الأميركية المكثفة، التي يقطع نفر كبير من الخبراء العسكريين أنها الأولى من نوعها منذ غزو أفغانستان عام 2001، والهادفة إلى الاستعداد لعملية عسكرية أميركية كبرى في إيران، دعت القوات المسلحة الإيرانية إلى توجيه ضربة استباقية لقاعدة "دييغو غارسيا" قبل أن تستخدمها أميركا لاستهداف إيران.
المسؤول الإيراني الكبير المستوى، صرح لصحيفة الـ"تليغراف" البريطانية بأن القادة العسكريين طلبوا استهداف القاعدة البريطانية الأميركية المشتركة، التي تقع فوق جزر "تشاغوس" البريطانية، في محاولة لردع دونالد ترمب عن ضرب إيران.
وأضاف المسؤول الإيراني "لقد تكثفت المناقشات في شأن الجزيرة منذ أن نشر الأميركيون قاذفات قنابل هناك".
لم يكن هذا هو المسؤول الوحيد الذي تناول شأن تلك الجزيرة، فقد استبقه موال آخر لنظام الملالي بتصريح قطع فيه بأنه كان على نظام الثورة الإيرانية أن يقوم بعمل استباقي لاستهداف هذه الجزيرة قبل وقت طويل من نشر الولايات المتحدة الأميركية قاذفاتها هناك، مضيفاً "أرى أنه من المستبعد جداً ألا يكون كبار قادة الدفاع في البلاد منذ التسعينيات قد فكروا في شن هجوم صاروخي، سواء باليستي أو (كروز)، على جزر (تشاغوس)، ولو لم يفعلوا لكانوا في غاية الغباء".
تلفت هذه التصريحات الأهمية الفائقة لجزر "تشاغوس" أول الأمر، ولقاعدة "دييغو غارسيا" ثانياً، وبعيداً من صدقيتها فمن غير المتوقع أن تهاجم قطع البحرية الإيرانية المتهالكة، التي لم تُجدد منذ أربعة عقود ونصف العقد، الأسطولين البحريين الأميركي والبريطاني في أي بقعة من العالم.
على أن هذا الموقف الإيراني الدعائي يستدعي كثيراً من التساؤلات المهمة والمثيرة حول موقع تلك القاعدة وتاريخها في الماضي والصراعات الجيوسياسية التي تقوم من حولها، لا سيما جراء قربها من الصين والهند، ثم يظل التساؤل الأكبر: ما الأهمية الاستراتيجية لـ"دييغو غارسيا" بالنسبة إلى الجيوش الأميركية؟ وهل يمكن بالفعل أن تتخلى بريطانيا عن سيادتها على جزر "تشاغوس" في المدى الزمني المنظور؟
أرخبيل التحولات العظمى
"دييغو غارسيا" هي أكبر جزر أرخبيل "تشاغوس"، وجزء من إقليم المحيط الهندي البريطاني. تقع الجزيرة جنوب خط الاستواء مباشرة وسط المحيط الهادئ، وتعد جزءاً من سلسلة جبال تشاغوس- لاكاديف، وهي سلسلة جبال تحت الماء.
اكتشف البحارة البرتغاليون الجزيرة عام 1512، وظلت مهجورة حتى بدأ الفرنسيون استخدامها كمستعمرة للمصابين بالجذام ولزراعة جوز الهند في أواخر القرن الـ18.
بعد الحروب النابليونية انتقلت الجزيرة إلى السيطرة البريطانية، وظلت جزءاً من موريشيوس حتى عام 1965، حين انضمت إلى جزر المحيط الهادئ الحديثة التأسيس.
أصبحت دييغو غارسيا مستعمرة تابعة للمملكة المتحدة بعد الحروب النابليونية كجزء من معاهدة باريس 1814، ومن هذا العام وحتى عام 1965 أديرت من موريشيوس.
وبهدف تحقيق استراتيجية الدفاع المتبادل بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، اشترت المملكة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1965 أرخبيل "تشاغوس"، الذي يضم "دييغو غارسيا" من مستعمرة موريشيوس التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي مقابل 3 ملايين جنيه استرليني لإنشاء إقليم المحيط الهندي البريطاني (BIOT).
في الـ30 من ديسمبر (كانون الأول) 1966 وقعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اتفاقاً من خلال تبادل المذكرات، سمح لأميركا باستخدام أراضي الإقليم لأغراض الدفاع لمدة 50 عاماً، أي حتى ديسمبر 2016، يليها تمديد لمدة 20 عاماً أي حتى عام 2036.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة كانت "دييغو غارسيا" في ذلك الوقت منطقة مثالية لإنشاء قاعدة عسكرية أجنبية، فمن حيث الموقع بدت بعيدة من أي تهديدات عسكرية محتملة، وسكانها الأصليون الذين لا يتجاوز عددهم بضع مئات مسالمون بطبعهم وطبيعتهم، كذلك فإن الجزيرة لم تكن مرغوبة من قبل الدول الأخرى نظراً إلى افتقادها المصالح الاقتصادية.
غير أنه لاحقاً ستلعب "دييغو غارسيا" دوراً متقدماً في مخططات الهيمنة الأميركية في المحيط الهادئ.
في مارس 1971 وصلت كتائب البناء البحرية الأميركية إلى "دييغو غارسيا" لبدء بناء محطة الاتصالات والمطار، ولتلبية أعلى درجات الأمن والأمان العسكريين، كان لا بد من ترحيل سكان الجزيرة الأصليين إلى جزر "بيروس بانوس" و"سالمون" المرجانية في الشمال الغربي، وهو ما رفضته حكومة موريشيوس المستقلة، غير أن 650 ألف جنيه استرليني من حكومة صاحبة الجلالة أنهت الأمر.
بحلول عام 1973 اكتمل بناء محطة الاتصالات البحرية، ورويداً رويداً ستضحى "دييغو غارسيا" واحدة من أهم القواعد العسكرية الأميركية حول العالم.
بصمة الحرية للعسكرية الغربية
يتساءل غير المتخصصين لماذا تكتسي "دييغو غارسيا" أهمية فائقة بالنسبة إلى المعسكر الغربي، وحتى بعد سقوط "حلف وارسو" واضمحلال النفوذ السوفياتي حول العالم؟
تعرف القاعدة العسكرية في "دييغو غارسيا" باسم "بصمة الحرية"، وتعد الأكثر سرية بين القواعد الأميركية في الخارج، ويثير احتمال انتقال الوضع القانوني لهذه الجزيرة من المملكة المتحدة إلى موريشيوس قلقاً بالغاً.
في مؤلفه العمدة "انتقام الجغرافيا"، يقدم لنا الأكاديمي الأميركي المعجون بالسياسة روبرت كابلان، لمحة ولو غير مباشرة عن أهمية قاعدة "دييغو غارسيا"، ذلك أنه وعلى حد تعبيره "سيكون المحيط الهندي مركز الاهتمام في القرن الـ21".
يرى كابلان أن تلك المنطقة ستضحى بمثابة نموذج مصغر للعالم بأسره، إذ تتطور إلى منطقة تتمتع بسيادة محمية بشرية مع اقتصادات وجيوش سريعة النمو، عطفاً على ترابط مذهل مع خطوط الأنابيب والطرق البرية والبحرية.
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والثابت أنه بفضل موقعها في قلب المحيط الهندي، تعد "دييغو غارسيا" مركزاً لوجيستياً بالغ الأهمية لكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التي تعتبر الجزيرة حالياً إقليماً تابعاً لها في الخارج.
ويتيح موقعها المركزي الانتشار السريع للقوات العسكرية لبسط نفوذها في أنحاء الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وجنوب آسيا، إضافة إلى توفيرها محطة رئيسة للتزود بالوقود والإمداد للعمليات البحرية والجوية.
لعبت "دييغو غارسيا" دوراً مهماً كقاعدة لوجيستية في حربي الخليج عامي 1990 و2003، واستخدمت لدعم العمليات القتالية التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان، كما أن المشتبه في صلتهم بالإرهاب الدولي الذين ألقي القبض عليهم في أفغانستان وأماكن أخرى حول العالم أرسلوا إلى "دييغو غارسيا"، حيث خضعوا لما يسمى "التسليم الاستثنائي" بعيداً من أعين المتطفلين.
تدير البحرية الأميركية معسكر "ثاندر كوف"، المنشأة العسكرية في "دييغو غارسيا"، إلى جانب القوات الجوية الأميركية. وتضم نحو 4 آلاف عسكري ومدني. وفي منطقة تعاني شح المياه العذبة تتمتع القواعد بالقدرة على إنتاج ما يصل إلى نحو 1. 2 مليون غالون من مياه الشرب يومياً لدعم السكان، وتؤدي هذه القوة العاملة أدواراً متنوعة تشمل العمليات والصيانة والخدمات اللوجيستية والأمن والاستخبارات.
وتعد "دييغو غارسيا" إحدى أكبر قاعدتين للقاذفات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والقاعدة الأخرى في جزيرة "غوام".
ويدعم مجمع المطارات مجموعة واسعة من الطائرات، بما في ذلك المقاتلات وطائرات المراقبة وناقلات الوقود وطائرات الشحن، إضافة إلى فرق القاذفات البعيدة المدى المكونة من قاذفات "بي -1 بي" و"بي 2" و"بي 52".
تتمحور العمليات البحرية في "دييغو غارسيا" حول مينائها الواقع في المياه العميقة ضمن حدود الأرخبيل، الذي يتخذ شكل حدوة حصان، ويمتلك هذا الميناء القدرة على استيعاب حاملات الطائرات وسفن السطح الأخرى والغواصات.
وتضم القاعدة البحرية مرافق لخدمة هذه السفن، بما في ذلك التزود بالوقود والصيانة، كذلك فإنها تعد مركزاً للعمليات الاستكشافية للبحرية الأميركية، وقاعدة حلفائها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وتعتبر "دييغو غارسيا" قاعدة حيوية لرصد العمليات البحرية والجوية الصينية المتزايدة في المنطقة، إذ تعمل القاعدة بأعلى مستويات الأمن، وتنظر الولايات المتحدة بقلق إلى النشاط العسكري والاقتصادي المتنامي في المنطقة.
أهمية متزايدة للجيش الأميركي
لعل الحديث عن الأهمية الاستراتيجية لجزيرة "دييغو غارسيا" وقاعدتها ينطلق من فكرة الجغرافيا، التي هي ظل الله على الأرض، كما أن التاريخ هو بصمة الإنسان على واقع البشر.
يعزز قرب "دييغو غارسيا" من ممرات الشحن الدولية الحيوية دورها في ضمان الاستقرار الإقليمي والأمن البحري في نقاط الاختناق الرئيسة، مثل مضيق "هرمز" ومضيق "ملقا"، لا سيما أن المحيط الهندي يعد بالفعل الممر البحري الرائد بين دول العالم في مجال الطاقة والتجارة، وستزداد أهميته في المستقبل إذ يمر 40 في المئة من النفط والمقطرات البحرية عبر هذه المياه.
عطفاً على ذلك فإن الأهمية الاستراتيجية لـ"دييغو غارسيا" تتزايد في واقع الأمر يوماً تلو الآخر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، والعهدة هنا على البروفيسور أندرو أريكسون الأستاذ في كلية الحرب البحرية في "رود آيلاند"، الذي أمضى أعواماً من عمره في تقديم أبحاث خاصة عن هذه القاعدة.
يوضح أريكسون أن تطوير "دييغو غارسيا" يعكس استراتيجية شاملة لإنشاء حضور مرن ودائم في مساحة حرجة ومتنازع عليها. ويعتبر أن الموقع المعزول للجزيرة على الأراضي السيادية لحليف وثيق يقلل من تعرض المنشأة للهجمات الإرهابية والخلافات مع السكان المحليين، التي تؤثر بصورة دورية في كثير من القواعد الخارجية.
علاوة على ذلك فإن "دييغو غارسيا" تقلل من الحاجة إلى أن يحتفظ الجيش الأميركي بوجود كبير على الأرض من أجل حماية حلفاء أميركا الإقليميين والسيطرة على انتشار الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، والحفاظ على تدفق الطاقة والتجارة عبر نقاط الاختناق الرئيسة.
لكن السؤال هو: كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف الإقليمية؟
يعتقد أريكسون أن ذلك ممكن من خلال اتباع سياسة توازن بحري تحافظ على التفوق المحلي عبر السيطرة على البحر. نتيجة لذلك فإن المنصات الجوية والبحرية إضافة إلى قوات العمليات الخاصة السريعة الانتشار في "دييغو غارسيا" تمكن الولايات المتحدة من تحقيق مصالحها الإقليمية بحضور أقل استفزازاً ووضوحاً.
والشاهد أنه اعتباراً من أوائل عام 2019 تضمنت المرافق الموجودة في الجزيرة مرسى وميناء يضم قوة دعم للبحرية الأميركية، وأسطولاً من سفن التمركز المسبق التابعة للبحرية التي تحمل في الغالب معدات للجيش ومشاة البحرية، وثكنات ومطارات ومفرزات مفصلة للقوات الجوية الأميركية تدعم رحلات القوات الجوية في المحيط الهادئ وقيادة التنقل الجوي، ومرصد أقمار اصطناعية للقوات الجوية، وتلسكوباً قوياً يستخدمه الفرع الطائر لتتبع المركبات الفضائية.
وربما تكون المرافق البحرية هي الأكثر أهمية بالنسبة إلى الخطط الأميركية الطويلة الأجل في المنطقة مع توسع البحرية الأميركية من أجل مواجهة الأسطول الصيني المتنامي الذي ينتشر بشكل متزايد في المحيط الهندي.
فهل تمثل "دييغو غارسيا" موقعاً وموضعاً متقدماً للمواجهات اللوجيستية الأميركية مع الصين، والتي يبدو أنها قادمة لا مفر منها، في ظل فكرة القطبية المتصاعدة للصين، ورغبتها في احتلال وضع عالمي متقدم في العقود القائمة والمقبلة؟
صحوة الصين ومستقبل "دييغو غارسيا"
هل ما يبدو وكأنه نهاية لآخر بقايا الاستعمار الغربي في.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

