في لحظة إقليمية تتغير فيها المعادلات، وتعاد فيها صياغة التوازنات في المنطقة، يمنح لبنان فرصة نادرة لاستعادة موقعه، لا كمنصة صراع، بل كوجهة حياة، لكن بدلاً من أن تلتقط الدولة هذه اللحظة وتترجمها إلى موسم سياحي منتعش، يخنق الأمل مجدداً، إذ لم يعد الحصار سياسياً أو اقتصادياً فقط، بل أصبح أيضاً حصاراً على حركة الوافدين، تمارسه الأسعار، وتعمقه الفوضى اللوجيستية في مطار بيروت، مما يدفع بآلاف اللبنانيين والمغتربين والسياح إلى العدول عن نيتهم بالمجيء، واختيار وجهات أخرى.
السائح والمغترب يتركان عالقين بين معاناة الحجز، وارتفاع الأسعار الجنوني، وبنية تحتية عاجزة. إنها وصفة إجهاض موسمية بامتياز، تسير عكس التيار، وتضيع فرصةً كان يجب أن تستثمر، لا أن تخنق. هكذا يتحول صيف 2025 من موسم واعد إلى موسم محاصر، ومن بوابة للانفتاح إلى دليل إضافي على أن سوء الإدارة قادر على تحويل كل فرصة إلى خسارة.
السياحة حاجة اقتصادية
السياحة في لبنان ليست رفاهية، بل مصدر أساس لضخ الدولارات وتحريك الاقتصاد المنهك. ومع تزايد الاعتماد على تحويلات المغتربين، يفترض أن تعمل الدولة على تسهيل عودتهم لا العكس. إلا أن التذاكر إلى بيروت باتت الأغلى في المنطقة. في موسم الأعياد نهاية 2024، بلغ سعر التذكرة من باريس إلى بيروت 2150 دولاراً، ومن لندن 1600 دولار، وتجاوزت من دبي 1900 دولار، أي ما يزيد بضعفين على كلفة السفر إلى وجهات قريبة كإسرائيل.
ووصف مازن نداف، صاحب مكتب سفريات، الأسعار الحالية، بأنها "غير منطقية"، مشيراً إلى زيادة تصل إلى نحو 40 في المئة مقارنة بالعام الماضي، ومؤكداً أن هذه الزيادة لا تقتصر على شركة "طيران الشرق الأوسط" (MEA)، بل تشمل معظم شركات الطيران المتجهة إلى لبنان، لافتاً إلى أن امتلاء الرحلات بالكامل يدفع الشركات إلى رفع أسعارها تلقائياً وفق قوانين العرض والطلب، خصوصاً شركة MEA التي شهدت زيادات واضحة في الأسعار.
في السياق رد مسؤول في شركة "طيران الشرق الأوسط" على الانتقادات المتعلقة بارتفاع أسعار التذاكر، معتبراً أن الأسعار المعتمدة ليست مرتفعة مقارنة بتلك التي تفرضها شركات الطيران الأجنبية، مضيفاً أن شكاوى المواطنين وشركات السياحة والسفر تعود في الأساس إلى امتلاء الجزء الأكبر من المقاعد على متن الرحلات المتجهة إلى لبنان، مما يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع الأسعار وفقاً لنظام إدارة العائدات العالمي (Yield Management)، الذي تعتمده جميع شركات الطيران بما فيها (MEA).
كما أشار إلى أن هذا النظام يحدد أسعار المقاعد وفقاً لتوقيت الحجز، بحيث تكون التذاكر الأرخص متاحة في المراحل الأولى من فتح الرحلات، سواء في الدرجة الاقتصادية أو رجال الأعمال أو الدرجة الأولى. وكشف أن أسطول شركة "طيران الشرق الأوسط"، الذي يضم 22 طائرة، يعمل بكامل طاقته على مختلف الخطوط الدولية، حيث من الصعب زيادة عدد الرحلات لتلبية الطلب المتزايد.
"الدعم" واحتكار الأجواء
وتشير أوساط اقتصادية إلى أنه على الحكومة أن تقوم بدعم مالي لتذاكر السفر بهدف تحفيز السياحة، أسوةً بدول عدة تعمل حكوماتها على خفض ثمن تذاكر السفر إلى أدنى المستويات بهدف تشجيع السياحة، سواء عبر خفض ضرائب المطارات أو إعانات مباشرة لشركات الطيران. والنتيجة: وجهات أرخص وأكثر جذباً. في المقابل، لم يعتمد لبنان أي سياسة مشابهة. لا حوافز ولا خفوضات، بل سوق حرة متروكة لرحمة الاحتكار، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل زائر وكل دولار.
ومنذ عام 1969، تتمتع شركة "طيران الشرق الأوسط" بحصرية تشغيل الرحلات من لبنان وإليه. وعلى مدى أكثر من نصف قرن، تم تمديد هذا الامتياز مرات عدة، آخرها حتى عام 2026. هذه الحصرية جعلت من "الميدل إيست" اللاعب الأوحد، وأعطتها قدرة استثنائية على تسعير التذاكر من دون منافسة.
وفي 2023 بلغت حصتها السوقية أكثر من 45 في المئة، وانخفضت قليلاً في 2024، لكنها بقيت المسيطرة. والأسوأ أن محاولات إدخال شركات طيران منخفضة الكلفة إلى السوق اللبنانية أجهضت بذريعة شروط فنية، فيما مطارات الدول المجاورة تعج بها. وتشير شهادات رسمية إلى تفاهم ضمني بين بعض الشركات العاملة على خطوط أوروبا بيروت لتوحيد الأسعار، في مخالفة واضحة لقوانين المنافسة.
"الميدل إيست تربح"... ولبنان يخسر
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن شركة (MEA) حققت أرباحاً تشغيلية كبيرة في السنوات الأخيرة، لكنها أرباح لا تقارن بحجم الخسائر الاقتصادية العامة. فكل تذكرة مبيعة بسعر مرتفع، تعني مغترباً أقل، وسائحاً أقل، ودولارات أقل تدخل البلاد. وتشير الإحصاءات إلى أن لبنان كان يستقطب نحو مليوني زائر سنوياً قبل الأزمة، غالبهم من المغتربين، ونسبة قليلة من السياح الأجانب. اليوم، تراجعت هذه الأرقام، واحتل لبنان مراتب متأخرة إقليمياً بحصة لا تتجاوز اثنين في المئة من مجمل الحركة السياحية في المنطقة. والسبب الأساس: كلفة الوصول المرتفعة.
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وجه الانتقادات، تقول (MEA) إنها تتحمل أعباء باهظة نتيجة الظروف الأمنية والتأمينية. خلال الحرب الأخيرة، كانت الناقل الوحيد المستمر في العمل، مما رتب عليها نفقات إضافية. كما أن إغلاق الأجواء السورية جعل رحلاتها أطول وأكثر كلفة. وتضيف أن تسعير التذاكر يخضع للعرض والطلب، وأنها تقدم أسعاراً مخفضة في غير مواسم الذروة.
كما تؤكد أن السوق اللبنانية صغيرة ولا تتحمل أكثر من شركة وطنية، وأن منافساً جديداً قد يهدد استقرار الشركة. رئيس مجلس الإدارة محمد الحوت قال إن الأرباح الحالية لا تعني أن الاحتكار سببها، مشيراً إلى خسائر فادحة تكبدتها الشركة في التسعينيات على رغم احتكارها للسوق حينها.
وأوضح الحوت في تصريحات صحافية أن الشركة مضطرة إلى تقاضي ثمن التذاكر بالدولار الأميركي أو ما يعادله، نظراً إلى أن 85 في المئة من نفقاتها تدفع بالدولار، بما في ذلك إيجار الطائرات، الصيانة، ورسوم المطارات، مشيراً إلى أن الأوضاع الأمنية، بخاصة في ظل التوترات الإقليمية، أدت إلى ارتفاع تكاليف التأمين على الطائرات، مما انعكس على أسعار التذاكر. كما أن الطلب المرتفع خلال مواسم الذروة، مع محدودية القدرة الاستيعابية، أسهم في زيادة الأسعار.
وأكد أن الشركة تعتمد على سياسة "إدارة العائدات"، حيث تتغير الأسعار بناءً على العرض والطلب. وهذا يعني أن الأسعار قد تكون مرتفعة خلال فترات الطلب العالي، وتنخفض خلال الفترات الأخرى، نافياً أن تكون "الميدل إيست" تحتكر الأجواء اللبنانية، مشيراً إلى أن الأجواء مفتوحة أمام جميع شركات الطيران العالمية. وأوضح أن الشركة تعمل وفقاً لقانون التجارة، وأن علاقتها بالدولة اللبنانية تقتصر على كونها منظماً للعمل، على رغم أن مصرف لبنان يملك حصةً كبيرة فيها.
السياحة رافعة الاقتصاد
وفي السياق لفت الصحافي ربيع ياسين إلى أن أسعار التذاكر الجنونية تشكل عبئاً متزايداً على اللبنانيين، سواء في الداخل أو في بلاد الاغتراب، وقال إن "الأسعار المرتفعة التي تعتمدها شركة (الميدل إيست) تحولت إلى عبء.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

